استثمار مواقع التراث الثقافي

28 يناير 2023
28 يناير 2023

يعد التراث الثقافي أحد أهم الممكِّنات الثقافية والحضارية التي تعتز بها الدول باعتبارها موردا أساسيا للتنمية المجتمعية، ولذلك فإنها تحرص على العناية بمجالاته من حيث جمع تاريخه وترميمه وبث الحياة في أرجائه، بُغية إيجاد آفاق تشاركية التراث مع المجتمع من ناحية والمستفيدين من ناحية أخرى، ولهذا فقد أوجدت السياسات والبرامج التي تضمن مشاركة إدارة التراث الثقافي وصونه، وزيادة وعي المجتمع وإدراكه لقيمته الحضارية سواء من خلال حمايته أو إيجاد طرق لإعادة إحيائه.

ولعل ما نراه اليوم من تثمين مجتمعي لموارد التراث الثقافي وأصوله نابع من ذلك الاهتمام الكبير الذي توليه الحكومة الرشيدة للتراث الثقافي وحمايته وصونه، والذي يظهر بدءا من النظام الأساسي للدولة، والرؤى الاستراتيجية، وسن القوانين والتشريعات المنظمة لهذا القطاع الحيوي المهم على المستوى المجتمعي والثقافي والاقتصادي والبيئي، فالتراث الثقافي يمثل أساسا تقوم عليه التنمية وهو هدف تنموي أصيل في شتى القطاعات، فلا يمكن أن نجد مشروعا مهما كان نوعه لا يهدف إلى الحفاظ أو الحماية أو الصون أو التنمية للثقافة بشكل عام والتراث بشكل خاص، لما له من أهمية في ترسيخ الهُوية الوطنية للدولة، ومن هنا كانت للتراث تلك الأهمية المجتمعية، والتي دعمت أهميته الاقتصادية والتنموية.

يشير تقرير (التراث الثقافي والمدن المستدامة) الخاص بـ (الثقافة 21)، إلى أن أحد العوامل الأساسية التي دفعت دول العالم إلى الانتباه إلى أهمية التراث هو (الاعتراف بمساهمته المحتملة في التنمية الاقتصادية)، وبالتالي قدرة مواقع التراث الطبيعية والمعمارية، وأشكال التعبير المتنوعة المرتبطة بالتراث الثقافي غير المادي على جذب السياحة والاستثمار، وما توفِّره من مصادر دخل جديدة وفتح فرص عمل مرتبطة بالإبداع الثقافي والابتكار، خاصة في ظل التوسُّع الكبير للتقنية الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ولذلك فإن العلاقة بين التراث الثقافي والتنمية الاقتصادية قد مرَّت بالعديد من التحديات والمناقشات التي ما زالت بعض الدول تتداولها، وهي تلك المتعلقة بأثر الاستثمار على التراث الثقافي وكيفية ضمان المحافظة على الأصول، غير أن الكثير من التجارب والمبادرات أثبتت رسوخ تلك العلاقة ضمن مفاهيم الاستثمار المعرفي والسياحي، فلا نكاد نرى مهرجانا أو فعالية سياحية أو ترفيهية دون أن توفِّر مساحة للتراث الثقافي سواء أكان ماديا أو غير مادي، الأمر الذي يرسِّخ العلاقة بينه وبين القطاعات التنموية المختلفة.

إن القيمة الاقتصادية للتراث الثقافي مستمدة من علاقته بالمجتمعات، وقدرته على ترسيخ علاقته بالموارد الطبيعية، ولهذا فإن العودة اليوم إلى التأكيد على تلك العلاقة مكْمنه وعي المجتمع والإمكانات التي يمكن أن تقدمها مجالات التراث الثقافي لأفراد المجتمع، إذا ما استطاعوا بث الحياة فيه واستثماره بما يتوافق مع القيمة الحضارية المرتبطة بالأصول من ناحية، والاستفادة من التقنيات والحداثة من ناحية أخرى، ولعل قدرة الدولة على فتح آفاق هذا القطاع والتعريف بالفرص الاستثمارية التي يوفرها، إضافة إلى تنظيمه وتسهيل العمل فيه، خاصة في مجالات التراث الثقافي المادي، دفع العديد من الشباب بشكل خاص إلى الاستثمار في المباني الأثرية والقلاع والحارات الأثرية بدءا من المساهمة في ترميمها وحتى تهيئتها لتكون مزارا سياحيا أو مقاهي أو مطاعم أو غير ذلك.

والحق أن تجربة الاستثمار في التراث الثقافي في سلطنة عمان بشكل خاص تُعد لافتة لما لها من أهمية على مستوى المنطقة في ترسيخ القيمة المضافة للتراث من ناحية، واعتمادها على المجتمع وخاصة فئة الشباب من ناحية أخرى، فقد شهدنا العديد من التجارب الرائدة التي قدمها المستثمرون الشباب في المحافظات المختلفة، والتي تمكَّنت من النجاح والصمود في وجه المتغيرات خاصة خلال الفترة الماضية، مما جعلها تمثل نماذج ناجحة للكثير من التجارب التي تلتها، إضافة إلى ما تقدمه الحكومة من خطط لتهيئة العديد من المواقع الأثرية لتكون في متناول المستثمرين الشباب. الأمر الذي يرسِّخ العلاقة بين التراث الثقافي والتنمية الاقتصادية، وقدرته على فتح فرص عمل وإبداع مختلفة ومتعددة.

والحال أن تلك التجارب أعادت تشكيل مفاهيم التراث الثقافي في المجتمع، و أسهمت في إعادة تمثيله في الواقع، وربطه بالقيمة الاقتصادية، ومن هنا سنجد تلك المبادرات الأهلية التي تقوم بعمليات الحفاظ على التراث الثقافي وحمايته وترميمه وتشغيله، بل أيضا تبادر إلى تقديم المقترحات والمشروعات للمؤسسات المعنية، والذي يدل صراحة على وعي المجتمع بأهمية التراث الثقافي وقيمته التنموية، ولهذا فإن مستقبل هذا الاستثمار عليه أن يتأسس وفق تلك المفاهيم المجتمعية القادرة على ضمان الحفاظ على القيمة الثقافية للتراث من ناحية، واستدامته التنموية من ناحية أخرى.

وبالرغم من أهمية تلك المبادرات والجهود إلاَّ أن القيمة التنموية للتراث الثقافي لا تتأسس وفق مجموعة من المبادرات وحسب، بل وفق التخطيط المؤسسي الذي يضمن له الاستدامة الثقافية ضمن قواعد الحفاظ على الأصول والهُوية الوطنية المميَّزة، والاستدامة الاقتصادية المرتبطة بالقيم الثقافية الفاعلة، وبالتالي فإن التخطيط هنا عليه أن لا يطمح إلى زيادة الاستثمار وحسب بل أيضا إلى توسعة مداركه من خلال فتح فرص جديدة وتجارب قائمة على الإبداع والابتكار، وزيادة المستفيدين منه، ولذلك فعليه أن يقوم على أهداف قادرة على رعاية النُهج الإبداعية والابتكارية للتراث الثقافي وإمكانات انفتاحه وبالتالي اتخاذ ممارسات مبتكرة في التمويل، وتقييم الكفاءة القادر على إحداث تطورات في مسارات هذا الاستثمار خلال المرحلة القادمة.

ولأن مواقع التراث الثقافي تمثل تراثا معماريا له قيمته الحضارية، فإن الاستثمار فيه ما زال يواجه الكثير من التحديات سواء البيئية والمناخية، أو الاقتصادية، وحتى المجتمعية. لذا فإن إيجاد استراتيجية واضحة، وخطة تنفيذية للحفاظ على هذه المواقع من ناحية، وتقييمها للكشف عن الفرص الاستثمارية فيها، وما تمثله من مساهمة فاعلة في التنمية الاقتصادية، سيُسهم في توسعة فرص الاستثمار فيه وسيعزِّز من قيمته المضافة خلال السنوات المقبلة، لما يمثله ذلك من أهمية للنمو الاقتصادي لهذا القطاع عامة، وبالتالي قدرته على الربط بين القطاعات التنموية كلها، وإمكاناته في استخدام مواقع التراث وموارده بشكل مُستدام.

ومع التطور الهائل الذي يشهده القطاع التقني فإن استثمار مواقع التراث الثقافي لابد أن يكون مواكبا لذلك التطور ومستفيدا من الانفتاح التقني والإمكانات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات، بما يُسهم في تحقيق غايات ذلك الاستثمار من ناحية، والأهداف الثقافية التي يتأسس عليها من ناحية أخرى؛ فالكثير من تلك التقنيات تمثل داعما مهما وأساسيا لتلك الأهداف، ولعل تجربة الدولة في قلعة نزوى تمثل نموذجا ناجحا في تطوير التنمية التقنية في المواقع التراثية والاستثمار فيها، الأمر الذي دفع إلى نقل هذه التجربة إلى مواقع تراثية عدة خلال المرحلة المقبلة، والذي يعكس الاستفادة من هذه التجربة وتقييم أثرها الاقتصادي والثقافي.

إن تجربة عُمان في حماية مواقع التراث الثقافي والاستثمار فيها تجربة رائدة، وعلينا أن نسرِّع تطوير هذه التجربة وتوسعتها بشكل أكبر، والاستفادة من الموارد المتوفرة خاصة التقنية والبشرية، بما يُحقق الأهداف التنموية ويضمن استدامة هذه المواقع، وقدرتها على الصمود في وجه المتغيرات المختلفة، فما تواجهه المواقع الأثرية والقلاع والحصون وغيرها من تحديات بيئية ومناخية يحتاج إلى التعجيل في حمايتها وصونها بشكل أساسي قبل التفكير في استثمارها.