إشعال جبهات .. تقود إلى خسائر
من ذا الذي يسعى بملء إرادته لأن يفتح لنفسه نوافذ مشرعة من المواجهات، والالتزامات، والأعباء، من ذا الذي يسعى بملء إرادته أن يعيش واقعا صاخبا جديدا، بعد أن قطع مسافة ليست هينة من عمره، ومن صحته، ومن تجربة الحياة، ومن معرفة مختلف التموضعات، والتصادمات في مختلف شؤون الحياة، فالدخول في أي تجربة جديدة، هي الدخول في مواجهة جبهة جديدة من التحديات، والمخاطرات، وإذا كانت هناك من مبررات للأعمار الصغيرة – حيث تجربة الخطأ والصواب – لأن هناك مساحة أفقية للعمر للتجربة، فإن الحال يتغير في حالة تقدم العمر، وإن تحققت مكتسبات من الخبرة والتجربة على امتداد المساحة الرأسية للعمر، ومن هنا تبدو المفارقة واضحة بين الموقفين.
يحضر مصطلح الـ"جبهة" على أنه مصطلح عسكري بحت، حيث جبهات القتال كما هو معروف، والحقيقة، ليس بالضرورة أن يكون كذلك، فكل خروج عن أي سياق معتاد في حيواتنا هو الدخول في جبهة غير مأمونة النتائج الإيجابية، حيث الدخول في مواجهة، والدخول في معترك، والدخول في تحد، حتى وإن بدا في مرحلته الأولى مستساغا، وآمنا، ولا يثير الشك، وإذا قيست هذه الجبهات كلها بمقياس العمر الذي نكون فيه، فإن القياس يأخذ تصاعدا "ترمومتريا" على حساب الصحة، وعلى حساب الهدوء، وعلى حساب الاستقرار النفسي، وعلى حساب مجموعة من التموضعات التي يفترض أن نتخذها مسارا جديدا للخروج من استحكامات الضغوط النفسية، والمادية على حد سواء، فالعمر يبقى المقياس المثالي والطبيعي الذي يجب القياس عليه في مثل هذه المواقف، حتى لو تحققت المادة، والصحة، إذا كان هناك من يرى أن الحالة المادية لها دور في التخفيف من تداعيات في حالة نشوئها عند الدخول في معترك جبهات جديدة في الحياة.
إن تم استخدام هذا التعبير المجازي لمفهوم الجبهات، فإن هناك جبهات كثيرة يمكن أن يواجهها أحدنا، أو جميعنا حسب ظروف الحياة اليومية ومقتضياتها، وقد تكون هذه الجبهات فارضة لنفسها وفق سياقات الحياة اليومية، وهذا لا محيد عنها، وقد تكون جبهات مفتعلة، لغرض ما، ولفترة ما، وقد يكون افتعالها لمدد غير محدودة، وهذه أخطرها، وتأثيراتها قاسية على حياة الفرد الذي تعمد افتعالها بإرادته الكاملة، وقسوتها تكمن في خضوع المسألة لموازنات كثيرة ومتنوعة: يأتي العمر والصحة، والظروف المادية، والظروف الحياتية، وذلك لخضوع الفرد لمجمل هذه الظروف إما في فترة واحدة، وإما في فترات متتالية، ويلعب العمر دورا محوريا في هذه المسألة، مهما كانت المبررات، ومهما كانت التعليلات التي يتكئ عليها الفرد في حالة الدفاع عن رأيه، كما يحصل دائما، فالذي يدخل في مشروعات تجارية على سبيل المثال، بعد مرحلة التقاعد، ويضع مدخراته التقاعدية في سلة هذا المشروع أو ذاك، دون دراية بالسوق، ودون معرفة واضحة بآليات إدارة المشاريع التجارية، فإنه بذلك يواجه جبهة الديون في أولى الخطوات، ثم تأتي جبهات أخرى من الالتزامات مع الزبائن، وعدم القدرة على التوفيق بين الإمكانيات، وبين المطلوب توفيره، ولعل المثال الأبرز هنا هي المشاريع الإسكانية "مقاولات الإسكان"، نعم قد تكون بعض هذه المشاريع ناجحة إلى حد كبير، وهذه لها ظروفها الخاصة، ولكن في الأغلب الأعم هناك تجارب "فشلت" لأن مجموعة الظروف التي تحدثنا عنها أعلاه ظلت غير مواتية لتسجيل خطوات النجاح، كما تأتي تجارب الزواج المتكررة، بعد الزيجة الأولى فتقع في نفس هذا المأزق، ولا أتحدث هنا عن الاستثناءات الناجحة، وإنما أجمل الأمر لشيوع الظاهرة في كثير من اشتعال الجبهات في تنوعها وتعددها، وهذا أمر مسلم به إلى حد كبير.
من الحكم التي يرددها الناس كثيرا هي: "من ينكر التاريخ، يجازف بتكراره"، وهنا قد يوجد مبرر، ولو كان بسيطا في تكرار التاريخ، لأن التجربة التي لم تمر على هذا الموقف أو ذاك، تظل خاضعة لمفهوم "إنكار للتاريخ في أمر ما" ولكن عندما نعيش حقيقة تجارب إنسانية عديدة، وبصورة شخصية، ونأتي بعدها لنكرر ذات التجارب "مجازفة للنتائج المتوقعة" فلن يكون هنا عذر مطلق للتكرار، وإلا وصفنا بشيء من الـ"عته" وعدم التعقل، وهذا أمر مناف لخبرة الحياة التي نعيشها وفق سنوات العمر التي مرت، والتي من المفترض أن تمنعنا وبقوة في عدم فتح جبهات لن يكون لنا القدرة على مجابهتها، ولذلك فالأمر ليس سهلا إطلاقا بأن نفتح علينا "جبهات قتال" أخرى قد نكون في غنى عنها، فلا السن يكون مناسبا عندئذ، ولا الهمة تكون في عنفوانها فقد تداعت عليها عوامل كثيرة، فقيدت حركتها ونشاطها، ولا الآمال مشرعة بذات الوضوح الذي كان عندما كنا نرسم خطوطنا العريضة لتحقيق ما نصبو إليه، ولا مجموعة الاستشرافات تكون حاضرة بتلك الدقة، حيث تتغلب عليها عوامل تعرية متعددة، تذهب بها إلى حيث المواقف والقناعات.
لم تكن ندوب التأريخ في يوم من الأيام مجرد أحداث تمر، أو صفحة من صفحاته، تقلب لتأتي صفحة أخرى مماثلة في سياقات حياة الناس المعتادة، ولكن مع ذلك كله، هي جبهات قتال شرسة، يستخدم فيها الإنسان كل أنواع الأسلحة من الصبر، والألم، والضعف، والفقر، والشجاعة، والبسالة، وقد يواجه الحسد، والصد، ونكران الجميل، والمغالبة على الباطل، وقد يصادف أعداء من أقرب الناس إليه، وقد يعيش معارك من الهجوم والهجوم المرتد، وقد يذهب به اليأس والخذلان مأخذهما على النفس، فهذه الندوب في مجملها هي جبهات اقتتال مشتعلة على مسار التاريخ، ولم يعش الإنسان طوال تجربته التي مرت به حتى اليوم، دون أن يتعرض لمثل هذه الأحداث التي تفرض نفسها على واقع الناس، فيجابهونها بكل قسوتها، يحدث ذلك لكي تستمر الحياة، ولكي تلبس ثوبا آخر جديدا، حتى تزهو في عيون أبنائها، وحتى لا تستمرئ لبس الأثواب المرقعة، فتموت بأبنائها، فالإنسان يغريه اللباس الجميل، ويجدد فيها الأمل والنظر إلى المستقبل بروح أكثر تفاؤلا، وأكثر أملا، فالجبهات في عموميتها، تأثيراتها قاتلة، ومحبطة، فمن يخرج من جبهة ما، لا يكاد يفكر أن يدخل في تجربة أخرى، حتى وإن خرج منتصرا، فجبهات الأمراض مثلا، حتى وإن خرج منها الإنسان منتصرا بالعافية – بفضل الله عليه – لا يستوعب إطلاقا أن يعيش مرحلة مرضية أخرى، فالصحة حينها ليست انتصارا بقدر ما هي وصولا إلى نقطة ضوء في آخر النفق المظلم، ربما قد يقول قائل: إن الأمراض ليست جبهات اقتتال مفتعلة، وإنما هي أقدار مكتوبة على جبين كل نفس نابضة بالحياة، ومع منطقية هذا القول، إلا أن هناك من يتسببون في إمراض أنفسهم بأنفسهم، من خلال تبنيهم سلوكيات، مؤدية إلى تمريضهم، فالمدخن، ومتعاطي الكحوليات، والمخدرات، والمنتهج سلوكيات غذائية غير سليمة، فهؤلاء وغيرهم هم يسيرون في تجاه إصابتهم بالكثير من الأمراض، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، وحتى أولئك الذين تغتلي أنفسهم من الحقد والحسد وكراهية الآخر لن يكونوا بمنأى عن الوقوع في براثن الأمراض النفسية القاتلة.
يوصف الإنسان بأنه "عدو نفسه" وأنه "الخصم والحكم" في آن واحد، وهذه العداوة قد تكون فارضة نفسها بحكم الطموحات والآمال، والتقديرات، والرؤى، ومجموعة من الاستشرافات المستقبلية، ولذلك يغض الطرف عندما يرى أن النفس سوف تتأذى من كل هذا، على اعتبار أن القادم أفضل، وأن القادم أكثر إشراقا، وأن القادم أكثر استقرارا، ولكن عندما نصل إلى مشارف هذا القادم نجد أنفسنا أننا أضعنا الكثير من الفرص الذاهبة إلى مؤاخاة النفس، وليس معاداتها، وإلى التوافق معها، وليس نديتها، وإلى الالتحام معها، وليس الانفصال عنها، وهناك الكثير من الحكماء الذين سئلوا في أواخر أعمارهم عن ما فقدوه، وما حققوه طوال سنوات العمر، وكأن هناك إجماعا على أن ما فقد أكثر مما كسب، وأكثر فقدا هو عدم الاقتراب من النفس، والتوافق معها، وظل الآخر البعيد هو الهدف، فضاعت سنوات العمر في هذه المتاهة.
