إسقاط حسابات التكلفة.. ليس الأمر يسيرا
نتعرّض جميعنا إلى ما يسمى بـ«حسابات التكلفة» وهذه التكلفة تشمل جميع ما نقوم به من أعمال، وما ننتهجه من سلوك، وما نقيمه من علاقات، وما نبذله من جهد، حيث لا يكون هناك إطلاقا جهد دون أن تقابله تكلفة، مهما صغر هذا الجهد، أقلها على الإطلاق تخصيص لحظات من أعمارنا للتفكير في هذا الأمر أو ذاك، وقانون الحياة المعروف أن لكل فعل رد فعل، ولكل بذل مقابل، بغض النظر عن ماهية هذا المقابل، فالمهم أن يكون هناك مقابل، وحتى الذين يبذلون الجهد الباذل في الأعمال التطوعية، ويعنونون بالخط العريض «جهد بلا مقابل» ليس صحيحا إطلاقا فهناك مقابل في الدارين: الحياة الدنيا، والآخرة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وبهذا النص لا تحتاج المسألة إلى مقاربات ملموسة، فالنص واضح وضوح الشمس المشرقة في منتصف النهار.
يحل مفهوم إسقاط حسابات التكلفة ضمن المعرفة الذاهبة إلى ما يسمى بـ«التضحية» وإذا كانت التضحية بمفهومها الخاص شيئا محببا في الفهم الاجتماعي، فإن إسقاط الحسابات على العكس من ذلك تماما، فبما أن هناك جهدا بذله صاحبه، فلا بد أن يحصل صاحب الجهد على مقابل لما بذله، وإلا أشيع الظلم، وعدم المساواة، ولكثرة الانتهازية، والتحايلات، ومجموعة الالتفافات على كثير من جهود الناس، ووقع الكثيرون أيضا في مطبات الاستغلال، فالإنسان بطبيعته يحب أن يأخذ أكثر من أن يعطي، وإذا أعطى ولم يجد المقابل الذي يرتضيه تحوَّل إلى مرحلة الـ«مَنّ» من المنِّيَّة، ولذلك يأتي التشديد الكثير على ذلك في قوله تعالى: «الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (262) من سورة البقرة.
ولأجل ذلك فالذي يعمد بكامل إرادته إلى إسقاط حسابات التكلفة التي قام به في أي جهد، يبقى من المعيب عليه أن يأتي فيما بعد و«يولول» ويتحسّر، ويلوم الآخر على أنه لم يحصل على مقابل، أو أن المقابل لم يكن بذلك المستوى الذي يتوقعه، وإلا عليه من البداية ألا يحرج نفسه، ويضعها في ميزان المقابل، إن هو فعلا لا يعنيه المقابل الكثير من الاهتمام.
أول ما يتعرض له (إسقاط حسابات التكلفة) هي أعمارنا المرتبطة ارتباطا موضوعيا بالزمن، حيث تمر السنون، والأشهر، وقبلها الأيام والساعات، وأغلبنا يعيش في مستنقع خسارة الزمن، حيث لا يمكن تعويض أي ثانية تمر من أعمارنا، إن لم نستثمرها الاستثمار الأمثل، وبالتالي فكل لحظات أعمارنا تظل في الأغلب الأعم، ورقات ساقطة، تذروها رياح السنوات، حيث تصبح كأن لا قيمة لها، وأن سنوات العمر التي قضيناها لم تكن في المقابل بمستوى الطموحات التي كنا نحلم بها، وكنا نرسم لها الخطوط العريضة والصغيرة في أذهاننا، فإذا المحصلة بسيطة ومتواضعة لا تعبّر عن هذا الكم الكبير من السنوات التي مرت، فمن يتحدث عن (60) عاما على سبيل المثال فإنه يفترض أن يتحدث عن منجز إنساني يوازي هذه السنوات المتضخمة بهذا العدد الكبير الـ(60)، وتحدث المفارقة في هذا الجانب بالذات عندما تجد شخصا يستصغر هذه السنوات المتراكمة، ويرى فيها أنها قليلة، ولذلك يستصغر كما غَيرَ هين من حسابات التكلفة التي بذلها، والتي سقطت من عمره هذا كورقة خفيفة تتلاعب بها الرياح، وهذا ليس من الحكمة في شيء، بل هي خسارة كبيرة، سقطت منها حسابات العمر الذي لا يعوض، وحسابات الصحة التي لا تعوض، وحسابات العلاقات وما أكثرها التي تلاشت مع اليقين أن إنشاء علاقات أخرى؛ لعل لها أن تعوض خسارات السنين، لن تكون سهلة، فالرؤى اختلفت، والأفكار تغيّرت، والقناعات تبدلت، والمواقف اختلفت، فهل هناك خسارة لحسابات التكلفة أكثر وأكبر من ذلك؟
تظل الحسابات التي تفرزها العلاقات الاجتماعية من أعقد الحسابات على الإطلاق، فهي لا تخضع إطلاقا للعملية الحسابية (1+1 =2) فهي ليست مفهوما تجاريا بالمعنى العام قائم على الربح والخسارة، فهي أبعد بكثير عن ذلك، وإن أسقطها البعض في هذا الخندق لسوء تقدير لا أكثر، ولذلك يظل إسقاط حسابات التكلفة فيها صعب جدا، ومؤلم وقاس إلى أبعد الحدود، ذلك أن من ينشئ علاقة اجتماعية ما، لا يمكن أن ينشئها بضغطة زر، أو ينهيها بنفس الطريقة، حيث تحتاج إلى كثير من الجهد، ومن المعرفة، ومن السؤال، ومن المتابعة، هذا في حالة نشأتها الأولى، أما في حالة امتدادها وهي العلاقات المعتقة منها، فهي لحالها قصة ممتدة من الإخاء والمودة، والتضحية، والتغاضي، والتحمل، والصد والرد، وكما يقول القائل: «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، على المرء من وقع الحسام المهند»، ونتيجة لذلك يمكن أن تنشأ حربا اجتماعية نتيجة لموقف يخضع فيه لمفهوم الانتصار لحسابات التكلفة، لأن الغالب في العلاقات الاجتماعية هو إسقاط حسابات التكلفة، وليس العكس، ففيها التضحيات، وفيها التغاضي عن الزلات، وفيها «اغمض عينيك واتبعني» وفيها شيوع المحاباة: فهذا أخ، وهذا ولد عم، وهذا ولد خال، وهذا صديق، وهذا ابن صديق، ومعنى هذا أن حسابات تنفيذ العقاب، أو الرد بنفس الفعل قد يصل إلى الحرام المطلق، ومن هنا يبدو نص الشعر أعلاه متوافقا مع المعنى، لأنك لا بد أن تستسلم لهذا المنطق الاجتماعي، وإن أدى ذلك إلى احتراقك ونهايتك، حيث ترى الظلم متسيدا على المشهد، ومع ذلك لا يمكنك أن تحرك ساكنا لمجموعة الاعتبارات التي ذكرت أعلاه، وعلى الرغم من قسوة المشهد، إلا أن الجميع «مستسلم عجزًا وخذلانًا» وكما جاء في النص أيضا: «فهذا الحكم فكوني راضية؛ وإلا فدونك الحبل فاختنقِ».
والفكرة ذاتها يمكن مقاربتها مع الشأن العام أيضا، وهنا المساحات تتسع، الدروب تتشعب، والمسالك تتقاطع وتختلف، لأن الشأن العام به مجموعة لا متناهية من الشخوص التي تقرر، والتي تعارض، والتي تنفذ، والأخرى تقصر، والتي تعمل لحساباتها الخاصة، والأخرى المغلوبة على أمرها، والتي تخون، والتي تكذب، والتي تعاند، والتي تدرك «من أي يؤكل الكتف» والأخرى المأخوذة على حين غرة، والتي تغالب قدراتها، والأخرى المتربصة بها، فليتخيل أحدنا كم من الجهود تبذل في كل هذه التموضعات؟ وكم من الأموال تصرف؟ وكم من الأفكار تهدر؟ وكم من الرؤى المستشرفة لآفاق الغد يغض الطرف عنها؟ وكم من الأعصاب تحترق عندما تصطدم بالواقع؟ وكم من واقع مرير مر عليه هذا وذاك؟ والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، فهل يتخيل أحدنا كم من حسابات التكلفة تسقط هنا، وكم من حسابات التكلفة تذهب أدراج الرياح، وكم من حسابات التكلفة تتحملها موازنة الدولة ماديا ومعنويا، وحتى لو تم التفكير في استرجاع أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكم ستكون المحصلة، وكيف تعوض الجهود المعنوية، والأفكار والرؤى، كيف يمكن أن توضع لها قيما مادية، وإذا كان هناك من غادر الحياة كيف سوف ينظر إليه عند احتساب هذه التكاليف مجتمعة كلها، هنا يبقى التسليم بعدم القدرة على احتساب ما سقط من التكلفة الحقيقية لكل ما ذكر، إذن هناك أو هنا، في هذا الزمن؛ أو في الأزمان التي مرت، والأزمان التي سوف تأتي، هناك كم ضخم من الخسائر، لا يمكن استيعابها عند مراجعة حسابات التكلفة، فما سقط فقد ذهب ولن يعود.
تستوقفني هنا أيضا عوائد «الهدايا الديموغرافية» وكيف يتم إسقاط حسابات تكلفتها من المشروع التنموي، حيث تبدأ حسابات التكلفة للأجيال منذ النشأة الأولى، وحتى تبلغ من العمر عتيا، وهي يستنزف الأموال، والأفكار، وفي نهاية الأمر تظل طاقة خاملة ليس لها دور في المجتمع، لأنها لم توظف التوظيف السليم في استغلال طاقاتها المتوثبة نحو المعالي لخدمة أوطانها، قد يرجع البعض هذا الواقع إلى الظروف الاقتصادية، ويرجعها الآخر إلى سوء التخطيط الاستراتيجي في استغلال طاقات القوى العاملة، ويرجعها الثالث إلى توغل القوى العاملة الوافدة وتحكمها في السوق التشغيلية، وخاصة الوظائف المهنية، وعلى هؤلاء الشباب أن يدخلوا معترك المنافسة، ولو بصورة غير متكافئة، وهذه -الأخيرة- بما لا يخفى على أحد ليست سهلة، ولا ميسرة، وقد تحتاج إلى عمر طويل من هذه المنافسة.
لا يخرج مفهوم حسابات التكلفة عن أن لكل شيء مقابل، وإسقاط هذا المقابل يقترب من مفهوم التضحية، والتضحية هنا لا يجب أن تكون خيارا مثاليا، لأن أي جهد يبذل لا بد أن يكون له مقابل، اختلفنا اتفقنا، فهذه هي الحقيقة
