إسرائيل لأول مرة أمام محكمة لاهاي.. لماذا تم ذلك؟

17 يناير 2024
17 يناير 2024

أتذكر أنني وأبناء جيلي في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وقد عرفنا بالظروف المحيطة بنا، فكنا نستمع من بعض كبار السن الذين سافروا في أوائل الخمسينيات وبداية الستينيات من ذلك القرن، وأغلبهم ذهب من ظفار للعمل إلى خارج سلطنة عُمان آنذاك، وهذا ينطبق على الكثير من العمانيين الذين هاجروا للعمل أو التعليم، إلى دول مجلس التعاون -كما تسمى الآن- فقد كانت الأعمال متوفرة، بعد ظهور النفط في المنطقة، لكن بالقدر المحدود لقدرات هؤلاء الذين هاجروا بحكم أن قدراتهم التعليمية محدودة بمستوى ما تلقوه في ذلك الوقت من التعليم، فقد كانت سلطنة عُمان آنذاك غير مستقرة بسبب الكثير من الأزمات السياسية، والاقتصادية التي تعانيها، كما نعرف جميعا. فكان هؤلاء الذين عادوا من السفر، يتحدثون كما سمعوا عما جرى في فلسطين من مذابح ومجازر فظيعة للسكان الفلسطينيين، بعد سيطرة العصابات الصهيونية على حيفا، وعكا، وعرعرة، وعرابة، وكفر قاسم، وغيرها من التجمعات السكانية في فلسطين، التي احتلت عام 1948، فسمعوا أثناء وجودهم في هذه الدول للعمل من فلسطينيين ومن غيرهم كيف أن الصهاينة يتفننون في القتل والتعذيب وانتهاك الأعراض، وشق بطون بعض الحوامل، من أجل الإمعان في الإيذاء والتخويف، للتطهير العرقي من أجل السيطرة على أراضي فلسطين بالقوة والتهديد بها.

لكن ما جرى بعد عملية (طوفان الأقصى)، في السابع من أكتوبر العام الماضي، فاق كل ما جرى وتجاوز كل القوانين والأعراف والأخلاق الإنسانية في حرب 1948، أو حرب 1967، في الإبادة الجماعية للسكان الآمنين والقتل المتعمد للأبرياء وبعضهم وهم نائمون، وهم بعشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، دون أن يتحرك الضمير الإنساني من بعض الدول الغربية -الكبيرة منها- التي أعربت أن ما قامت به إسرائيل من هذا الاعتداء الذي لا يفرّق بين مقاوم مسلح، وبين مدني لا يملك سلاحا، وأغلبهم من كبار السن والنساء والأطفال، وحجّتهم في ذلك أن ما تقوم به إسرائيل هو للدفاع عن النفس! والدفاع عن النفس له مبررات قانونية وسياسية وإنسانية أخرى، ليست بهذه الأفعال الانتقامية، فهذه العصابات الصهيونية احتلت أراضي الفلسطينيين، وطردتهم من أرضهم، وكل القوانين الدولية والإنسانية تعطي الحق لأي شعب من الشعوب أن يقاوم ويناضل المحتلين، وما قامت به كتائب القسام في العملية التاريخية هو نوع من المقاومة، كما أن قتل المدنيين في الحروب محرّم دوليا، وإسرائيل لم تلتزم بهذه القوانين وقتلت ما يزيد على 24 ألفا من المدنيين الأبرياء ولا يزال قتل المدنيين مستمرا، ولم تكترث إسرائيل للقرارات الدولية، ومنها مجلس الأمن من خلال الفيتو الأمريكي، الذي يمنع صدور الإدانة للكثير من القرارات.

وبعد قيام إسرائيل بعد حرب 1948، كانت هذه الحرب نكبة أولى للشعب الفلسطيني، في أراض كما تُعرف بأراضي 48، وهي الأراضي التي هُجّر منها مئات الألوف من الفلسطينيين، إما إلى الأراضي الفلسطينية التي لم تُحتل في هذه الحرب في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإما هُجّروا قصرا إلى البلدان العربية المجاورة، كسوريا ولبنان والأردن. والحقيقة أن فظائع كبيرة من القتل والتدمير وسرقة الأراضي والمذابح التي جرت في كفر قاسم ودير ياسين، وهناك مذابح كثيرة للفلسطينيين الذين رفضوا الخروج من أراضيهم، بفعل التطهير العرقي، كما كُتب عن العديد من الجرائم التي اقتُرفت بعد حرب 1948، لكن الاستعمار البريطاني وبعض الدول الغربية التي شجّعت إقامة وطن قومي لليهود، ولم يكن هناك دعم خارجي، والدول العربية أغلبها كانت مستعمرة، لذلك استطاع الصهاينة أن يقوموا بعمليات كبيرة من الإبادات الجماعية للسكان، والتطهير القسري بالقوة المسلحة بلا هوادة أو رحمة، وتعرف الدول الغربية التي أقامت المنظمة الدولية، أن هذا خرق للقوانين التي كتبوها في نظامها الأساسي، وفي الإضافات الأخرى بمنظماتها الفرعية، ومنها أقيمت محكمة لاهاي المتعلقة بجرائم الحرب ضد الإنسانية في القانون الدولي، وهذا ما جعل الدول الغربية تغض النظر تجاه الكثير مما كُتب في هذه المنظمة الدولية، وتم السكوت على فظائع العصابات الصهيونية، ومنها قيام الاستيطان العنصري في أرض فلسطين.

مع استمرار جرائم الإبادة الجماعية في غزة، والتدمير الممنهج لمساكن للفلسطينيين في غزة والإبادة الجماعية لهم، تقدمت جمهورية جنوب إفريقيا بدعوى على إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، من خلال تقديم الوثائق والإثباتات القانونية باتهام إسرائيل بإبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وهذه مسألة لا تحتاج إلى جهود كبيرة، فكل ما حصل في غزة عرفه كل العالم؛ بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام الذي يُشاهد من القنوات المتلفزة في كل القارات، لذلك لأول مرة تتحرك الشعوب في غرب أوروبا بالملايين منددة بما يجري من إبادة جماعية في غزة، وناقدة لمواقف دولها لما يجري فيها، وهذا امتحان عسير لما يقوله الغرب ويحاول أن يظهر نفسه أن لديه معايير لحقوق الإنسان والديمقراطية، ورفض الظلم والاستبداد وقهر الإنسان واستباحته... الخ. لكن الواقع المَعِيش لما جرى من بعض هذه الدول يخالف ما يُقال، فلم تعد أجيال الغرب، وهم من خريجي الجامعات والكليات العلمية، تقبل تلك التبريرات غير المقنعة، لما يجري في غزة، الذي أصبح يفوق قدرة الإنسان على المشاهدة، عندما يستباح شعب وأرضه وكل ما يمتلكه من مسكن وإقامته كإنسان، من هنا فإن الدعوى من جمهورية جنوب إفريقيا، مسّت الجرح النازف الذي لم يتوقف عن النزيف منذ حرب عام 1948، وحان وقت الكشف الحقيقي الذي طال غيابه لمحاكمة لاهاي من يسفك دماء الأبرياء بلا عقاب.

فالذي جرى ويجري في غزة صدم العالم الذي يشاهد ويتألم لما يجري من مذابح، ومن تدمير ومن معاناة لمدينة صغيرة، يسكنها أكثر من مليونين من البشر، ولم يتبق شيء مما يعد سكنا للبشر بعد هذا القتل والتدمير لكل ظروف الحياة التي تستحق الحياة الآمنة وما يتبعها من استقرار، وتقول جنوب إفريقيا في عريضة الدعوى المؤلفة من 84 صفحة، كما تذكر التقارير المنشورة عن هذه الدعوى: إن أفعال إسرائيل وقتل الفلسطينيين «تعد ذات طابع إبادة جماعية؛ لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب. لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية». كما طلبت جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية، أن «تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة، ووقف أي أعمال إبادة جماعية أو اتخاذ إجراءات معقولة، لمنع الإبادة الجماعية، وتقديم تقارير منتظمة إلى محكمة العدل الدولية حول مثل هذه الإجراءات». «مع أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن عليها بموجب هذا القانون».

وهذه الدعوى لا شك أنها توضح الإدانة الواضحة للأفعال التي تعد جريمة إبادة جماعية، كما نصت على ذلك محكمة لاهاي في جرائم الإبادة الجماعية، كما كانت أول اتفاقية دولية أقرتها الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، وهي اتفاقية «منع جريمة الإبادة الجماعية عام 1949»، ودخلت حيز التنفيذ عام 1951، وهذه الاتفاقية، كما يقول الدكتور وليم نجيب نصار: إنها «تحمل في طياتها تعريفا دوليا لمعنى الإبادة الجماعية، تشمل عدة أركان تكوّن هذه الجريمة الدولية، تقول في المادة (2)، إن هذه الجريمة تعني (أيا من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة، عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعات أخرى)».

يقول الطبيب الجراح غسان أبو ستة: إنه «خلال تطوعه في العمل في مستشفيات قطاع غزة، وإجرائه مع زملاء له تحاليل على الأطفال الجرحى، وجد أن أجساد المصابين تعاني نقصا في النمو، إذ حملت تلك الأجساد «خريطة باثولوجية للحدث السياسي»، كما حملت آثار الحصار الطويل على القطاع، فترى طفلا وزنه أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه وزن طفل في عمره، ذلك بأن سوء التغذية أدى على مدى أعوام الحصار إلى نقص في النمو». وكما يقول المثل: (ما كل مرة تسلم الجرّة)، والجرّة هي إناء لحمل الماء من الآبار والأنهار، والمقصد أن ليس كل الوقت تسلم من الانزلاق في المياه وتسلم من ارتكابك للأخطاء والسلبيات، فلا بد أن يأتي يوم تتحقق فيه المحاسبة، وتلك سنّة الله في الخلق، فلا يمكن بل من المستحيل أن تتقادم الأحكام، أو تهمل، حتى ولو حاول البعض أن يقف سدا منيعا لعدم تحقيق العدل على كل ظالم، وحان الوقت لكشف الحساب كما تم ارتكابه.