إذكاءٌ رقميٌّ لفتيل العنف

18 ديسمبر 2022
18 ديسمبر 2022

للجريمة تعريفات عديدة ومفاهيم متفاوتة، كلها تفضي إلى مخالفة السائد وفقا للتشريعات الإنسانية والدينية والقانونية؛ منها ما يجعل الجريمة ظاهرة اجتماعية بحتة إذ أنها تسبق القانون تاريخيا في تجريم المخالف للمتعارف عليه مجتمعيا والحكم عليه من الجماعة، أو الشذوذ عن عرف المجتمع وقيمه.

وفي سياق الجريمة ومستوياتها وتاريخها وتعريفاتها لا بد من دراسة واعية لميل الإنسان لتلبس العنف في خروج سافر عن السلوك السوي الطبيعي إلى النزعات العدائية التي قد تتمثل الرغبة في الانتقام المادي وصولا للتصفية الجسدية عبر القتل.

لا يمكن إغفال ارتفاع معدلات الجريمة في كثير من المجتمعات، كما لا يمكن إغفال أسباب هذا الارتفاع وتأمل أشكاله وتحليل إحصائياته إن وجدت.

لم تعد مفردات القتل والتصفية والانتقام نوادر لا تكاد تسمع أو تقرأ، بل صارت متداولة شائعة، فما تبرير ذلك؟ هل نعاني فعلا من ميل الناس للعنف والتعبير عن هذا العنف بشكل عدائي انتقامي قد يتجاوز السباب والشتم إلى الضرب أحيانا وصولا للقتل في أحيان أخرى؟ أم أن السر في تسجيل هذه الحالات حاليا ونشر أخبارها وإحصائياتها محليا وعربيا وعالميا عبر هذا العالم المفتوح مع وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعني أن هذا العنف وهذه الجرائم موجودة أصلا وبذات المعدلات ولكن الفرق في وصولها إلى الجميع عبر الإعلام التقليدي وغير التقليدي؟ هل يمكن تحميل وسائل التواصل الاجتماعي وزر هذه النزعة للعنف والانتقام؟ إن كان ذلك واقعا فكيف؟ ولماذا؟

تتشابك علاقات البشر في كل المجتمعات وتتداخل مصالحها، وتتعارض أحيانا لتصل لمواقف صدام أحيانا، هذه التقاطعات المتشابكة ينظمها القانون في كثير من الأحيان، كما قد تنتظم عبر الأسرة أو المجتمع في أحيان أخرى، وقد يسبق إلى كل ذلك ثوابت الإنسان من عقيدة وقيم إنسانية عليا تمنعه من الجنوح للعنف أو الرغبة في الانتقام، ومن هذه التداخلات والتصادمات ما قد يمس الفرد في ذاته أو ماله أو تشكلاته النفسية والسلوكية، لا سيما إن رافق موقف التصادم انفعالٌ آنيٌّ مضاعف لدى طرف ما يستشعر القهر أو الخذلان أو الخيبة فيتوهم القوة والعنف سبيلا للانتصار لنفسه مهما كان ما قد تفضي إليه تلك القوة وذلك العنف.

واليقين الثابت الذي ينبغي الاتكاء عليه أن لا مبرر للعنف بكافة أشكاله، مع التمسك بالثوابت الرئيسة للإنسان مهما تبدلت المواقف وتحولت الظروف، فأي مبرر يمكنه تأويل التسبب لأي إنسان بعجز جزئي أو كلي؟! بله القتل فإنه مرفوض قولا واحدا لا يقبل نقاشا أو تبريرا.

كيف يمكن لإنسان أن يُقْدِم على إزهاق روح على هذه الأرض مهما بلغ به اليأس، أو ساوره الغضب، أو انتابته نوبةُ انتقامٍ مباغتة؟

ونسأل مجددا هل لوسائل التواصل الاجتماعي علاقة بكل ذلك؟ وفي سياق هذا السؤال لن نعرج على "تويتر" أو "انستغرام" أو "تيك توك" إذ ليس الكل مطلعا عليها، بل سنكتفي بما ينقله "الواتس اب" عن الثلاثة وما يتداوله الناس بمختلف أعمارهم في كل مكان عبره. هل يمكن لأي من متلقيه إنكار شعبيته العالمية؟ ثم هل يمكن إنكار اختراقه الخاص وتحويله لعام مبتذل مشاع؟ علاقة المرء ببيته، بأهله، بأسرته، بل وأكثر من ذلك ما بين الزوج وزوجته من خصوصيات كانت -قبله وأخواته- محل كتمان وصون ظهرت لتكون موضوع نقاشات علنية جماعية بكل تفاصيلها الدقيقة، بل حتى علاقة الإنسان بنفسه وأسرار وضعه الصحي والمادي، مما يجعلنا نعيش شعور الفرد المخترق رقميا في كل ما لديه؛ صحيا، ماديا، أسريا وحتى عاطفيا.

يعمل كل ذلك التكثيف الجماعي لحدث فردي عابر إلى شحن الفرد والجماعات عبر التوصيف الخاطئ للحدث أحيانا، أو عبر التحريض المجرد من أي معرفة كلية بحقيقة العلاقات بين الناس، لينسحب ذلك التوصيف وذلك التحريض ليشكل ردود فعل كثيرة قد يتبناها الأقل وعيا والأضعف تمسكا بثوابته، كما قد يتبناها مراهقون لمّا يتبينوا حقيقة عواطفهم بعد، ولا تشكّل شخصياتهم ببناء استقلالهم ماديا واجتماعيا، أو تتمثلها فئة من المقهورين نفسيا أو مجتمعيا باحثين فيها عن خلاص وهميّ يتصورونه نجاة، وما هو إلا هلاك مضاعف، يتخيلون أنهم بقتل أنفسهم أو الآخرين يضعون نهاية لآلامهم وخاتمة لمعاناتهم، غافلين عن تصنيعهم لآلام جماعية لا تنتهي، ومعاناة مركبة لا يمكنهم تحمل وزرها دنيويا أو آخرويا إن فقهوا مغبتها وأدركوا عواقبها.

ومع كل ذلك كيف لا نتوقع تزايد النزعة للعنف والسلوكيات العدائية المتفشية؟

يحدث كل ذلك مع استغلال تلك الحالات من قبل بعض المؤدلجين خدمة لتوجهاتهم التي قد تذكي فتيل العنف المجتمعي سريع الاشتعال، فلا تصبح حتى المؤسسات قادرة على إطفائها حينئذٍ، يلبسها بعضهم ثوبا "جندريا" محاولا إثبات نظريته في العداء ضد المرأة، أو العكس في التحريض على المرأة،أو حتى إلباس الجريمة والعنف ثوبا مناطقيا، أو قبليا، في حين أن ليس للجريمة جنس، كما أنه لا قبيلة للعنف، ولا ينبغي ترويج كل تلك الادعاءات الزائفة والأباطيل المتهافتة.

يحدث ذلك أيضا في غياب خط الوعي والتوعية الموازي الذي ينبغي أن يكون حاضرا بشكل يفوق ظاهرة الاختراق الرقمي، وعيا فرديا ومجتمعيا ومؤسسيا سعيا لتعزيز الثوابت وتفكيك مسارات العنف والعداء عبر التذكير بعواقبهما، والتأكيد على الإيجابيات من مسؤوليات الفرد وواجباته وحقوقه، مع التسويق الحثيث والمستدام للقيم النبيلة العليا كالتسامح، والعفو، والصلح، وفتح مسارات أخرى متخصصة دائمة للبوح والتنفيس والاستشارات النفسية والسلوكية.

لن تتقلص معدلات العنف أو تتلاشى الجريمة إن وقفنا جميعا موقف المتفرج، وبدأنا بعد الحالات بعيدا عن الحراك الإيجابي الفاعل على كل المستويات الفردية، والمجتمعية، والمؤسسية، في احترامنا خصوصية الأفراد واستهجان انتهاكها حتى وإن أتى من الفرد نفسه، لا بد من تعزيره وزجره لينأى بخصوصياته عن أيدي العابثين، ثم التأكيد على احترام الثوابت الرئيسة من عقيدة مؤكدة وسيرة نبوية، وإعلاء قيمة الإنسان في ذاته بعيدا عن كل القشور المادية أو المجتمعية، ثم تعزيز كل ذلك بضرورة فرض هيبة القانون عبر إنصاف الضحايا وعقاب المجرمين متى ما توافرت القرائن وتحققت الوسائل، ثم إعلان ذلك مجتمعيا ردءا لمحاكاة الجرم مستقبلا استهانة بأثره، أو تكراره استسهالا لعاقبته.