إدارة الأنظمة بالجهل

04 مارس 2024
04 مارس 2024

العلم يرفع بيوتا لا عماد لها

والجهل يهدم بيت العزِّ والكرم

هذا البيت المنسوب لأمير الشعراء أحمد شوقي (ت:1932م)؛ كثر الاستشهاد به فهو من عيون الحكمة، بيد أنه لا ينبغي حصره في الأفراد، فدلالته تتسع لطبيعة الأنظمة البشرية وإن أخذت منحى آخر، فالجهل.. يهدمها بصورة أكثر تعقيدا، وبالأحرى؛ أكثر مخاتلةً للاجتماع البشري. وبعض الأنظمة السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية قد تبدو للناظر أنها حية، وفي حقيقتها تحتضر، ولم يعد فيها من نسغ الحياة إلا ما تحافظ به على وجودها الشكلي دون أن تضيف شيئا كثيرا للناس، فضلا أن تسهم بفاعلية في التطور الاجتماعي والتقدم البشري.

والقرآن.. حكى قصة النبي سليمان، بوصف «نظامه البديع» من تسخير الرياح والجن وإسالة عين القطر، ولمّا توفي لم يعلموا بموته حتى خرّ أرضا بعدما أكلت الأرضة منسأته: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) [سبأ:12-14]. القصة.. ذات دلالات إيحائية، جدير بالإنسان أن يستلهم منها العِبَر؛ فهناك نظام محكم على رأسه قيادة قوية، وعندما انتهى أجله لم يُكتشَف إلا عندما خرَّ بمرور الزمن، وهو ما أسميه هنا «أرضة الأنظمة».

الأنظمة.. غالبا عندما تشعر بالخلل يسري بين أوصالها تبذل جهدها لإطالة أمدها والمحافظة على مؤسساتها، حيث تصبح بين مفترقين: إما أن تحافظ على قوتها وتواصل نشاطها بأدوات لم تعتد عليها، وهذا يتطلب تجديدا في الأفكار التي تدير النظام، ولا يتأتى ذلك إلا بالعلم، والعلم له أدواته الكبرى، ويحتاج إلى عقول حكيمة راجحة، ويكلّف المؤسسة أموالا وجهودا، بيد أن مردوده وفير للجانبين المعنوي والمادي، بحيث ينهض النظام نهضة شاملة، يسترد من خلالها كل ما بذل في استئنافه، من جهود بشرية ومصاريف مالية وأوقات تشغيلية، ثم يجني أرباحه ما دام تجديده بالعلم قائما.

وإما أن الأنظمة تنهار، وانهيارها لا يحصل دفعة واحدة، فهي كائنات حية، تحاول قدر مستطاعها أن تحافظ على وجودها. وانهيارها غير مرهون بزمن محدد، فحتى يظهر انهيار حضارة ما قد يستغرق عدة قرون، والدول تحتاج إلى عقود، ويكفي الشركات والمؤسسات بضعة أشهر.

خلال فترة الاحتضار.. أجهزة النظام تعمل؛ لكنها تعمل بالجهل. وهذا الأمر مع غرابته هو واقع بعض الأنظمة، فما المقصود بالجهل؟

الإنسان.. لا يخلو من المعرفة، فإما أن تكون صحيحة فتلك هي العلم، وإما أنها غير صحيحة فهي الجهل. والجهل.. كغيره من المفاهيم التي تسير عليها الحياة خاضع للتطور والتعديل والتأويل بحسب المنطقة التي يُستعمل فيها. فالجهل.. أداة من أدوات فهم الحياة، بغض النظر عن طبيعته، فمِن الناس مَن يعيش على الأوهام، وقد يغتني منها، ألا ترى أن البعض قد أثْرى من الشعوذة، والمشعوذ غالبا لا يدري أن عمله جهل، بل قد يوقن بأنه علم. وكذلك صاحب الحرفة التي ورثها من آبائه؛ قد يظن بأنه امتلك زمام علمها وأسلست له انقيادها، ولا يدري أن الزمن تجاوز خبرته بها، ولن تلبث طويلا حتى تكسد ثم تموت، وهذا أمر مشاهد في كثير من أمور الحياة، ينطبق على الأنظمة السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية. و«الأمية» لم تعد حصرا على مَن لا يقرأ ولا يكتب، فـ«الأمي» مَن لا يتقن التعامل مع الأنظمة المستحدثة -كالتقنية الرقمية- وتحولاتها المتسارعة. إن مفهوم الجهل ليس جامدا، بل متحركٌ ونامٍ كسائر مفاهيم الحياة، إلا أنه قاتل.

فالسياسي.. عندما يقود نظامه دون قدرة على ضبط مساراته واستشراف مآلاته، ودون وعي بالمرامي البعيدة والقريبة لمخططات الأنظمة التي تتحكم بالعالم وتتنافس على الهيمنة الدولية، ولا يدرك أن للحراك الاجتماعي قدرة فائقة على التغيير السياسي، ويتصور أن نجاح نظامه بالحفاظ على أجهزته عن التوقف، فهذا قيادته بجهل؛ مهما اطلع على تقارير ترفع إليه، وكان حازما في تطبيق قوانينه. وهو كمَن يدير شركة بصلابة لكنه لا يقدر على اكتشاف الخلل في مفاصلها، ولا يستطيع التجديد فيها، فلن ينتبه إلا وقد أفلست بفعل تطور النظام الدولي وتغيّر المزاج الاجتماعي.

والإداري.. الذي يكتفي بأن تنجز مؤسسته أعمالها الروتينية، ولا يعمل على تطويرها؛ فكرةً ورؤيةً وهدفا، فهو يدير مؤسسته بجهل، حتى إنْ أهّل موظفيه على إنجاز الأعمال المعتادة بالمؤسسة. وقد يضع لها خططا؛ إلا أنها غير مقروءة، ولا تكشف عن مقدار الأعمال المنجزة مقارنة بنظيراتها في المؤسسات الأخرى. وقد لا يدرك مدى الخلل الذي تحدثه المؤسسة في المجتمع، ويعتقد أن ما تقوم به هو ما يحتاج الناس إليه. أو تغيب المحاسبة الواعية والتقييم الموضوعي للمؤسسة، أو تُعظّم الأعمال الزهيدة وتُهمل الأعمال العظيمة، أو يُحتفى بمنجَز؛ أيا كان قدره ويهمل تكريم الإنسان، كل هذا إدارة بجهل.

والفقيه.. قد يصاب بالجهل من حيث لا يدري، فيتصور بأن حفظ الأدلة الشرعية وعلمه بالقواعد الأصولية والضوابط الفقهية، والقدرة على الاستنباط وفقا لمنظومة أصول الفقه، هو ذروة العلم بالدين، بل قد يتمكن من علم المقاصد الشرعية ويصبح خِرّيته الذي لا يبارى، غير أنه لا يختلف كثيرا عمّا كان عليه جن سليمان بن داود، فهو لا يعرف بأن منظومته الفقهية لم تعد صالحة لإدارة شأن الحياة، ويظن بأن «شأن الحياة» هو أن يجيب على أسئلة الناس، ويحشو كتبه بأقوال السابقين، أو يكون «مستشارا شرعيا» في المؤسسات المالية والطبية. ويجهل بأن الحياة -التي جاء الإسلام لإصلاحها وإعادة بنائها- تجاوزت مقولاته الفقهية وتنظيراته الأصولية، وأنه محتاج أن «يتواضع علميا» أمام متغيرات الحياة، وأن يعلم بأنها أصبحت بحاجة إلى «نظرية معرفية» جديدة، تسهم في إدارة شأن المجتمع والدولة، نابعة من القرآن الذي جعله الله هداية للعالمين. كما يكتفي الفقيه بأن يبني هياكل اجتماعية محدودة تقلّده، ويترك حركة الاجتماع الكوني، ومبلغ علمه أن يحذِّر من المنظومات المعرفية التي لا تتوافق مع فكره المحدود ولا تخضع لنظامه المغلق.

إن مقدار العلم يكون بمدى ما يرفع من شأن الإنسان، فكل الأعمال والمؤسسات والأنظمة إنما وضعت لخدمته، والعلم ذاته لخدمة الإنسان، فإذا كفّت منفعته تحول إلى جهل، وهذه قاعدة عامة في الحياة، فمن لا يدرك انتهاء صلاحية علم ما فهو يتقلّب في فراش الجهل الوثير، ويدير شأنا عفا عليه الزمن، أو أن منافعه أصبحت زهيدة لا تواكب ما وصلت إليه المجتمعات من علوم واستغلال لها. بل هناك من العلوم ما يتربع على قمة الجهل؛ وهي العلوم التي تجلب الضرر للأبدان كإنتاج المخدرات القاتلة، أو تحلّ الخراب بالديار كصناعة الأسلحة الفتاكة، أو تلقي الفساد في النفوس كإصدار الأحكام الإقصائية. وإدارة الحروب إنما هي نتيجة علوم، ولكنها علوم أضر من جهل، إن لم توضع في موضعها الصحيح كإزالة الظلم وردع الظالمين.

ختاما.. ما تحتاجه مجتمعاتنا هو إدارتها بالعلم الذي يحيي النفوس وتنتعش به الأمة، العلم المتطلع إلى الريادة العالمية على كل المستويات، وألا يكون مُورِثا للغفلة الحضارية، فرُبَّ علمٍ يوما ما يصبح جهلا في زمن لاحق. وصدق الحكيم حين قال:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»