أي مستقبل للترجمة؟

27 سبتمبر 2025
27 سبتمبر 2025

إن عنوان هذا المقال يُعد من أهم التساؤلات التي أصبحت متداولة بشأن مصير الترجمة ومستقبلها في ظل التطورات التقنية المتسارعة؛ فبعد أتمتة الترجمة التي كانت أحد أحلام البشرية في القرون الماضية أصبحت واقعا سريع التطوُّر خاصة بعد إنتاج برامج الترجمة الآلية الاحترافية والنماذج اللغوية المتعددة اللغات التي تعمل على الترجمة والمراجعة والتحرير وغير ذلك من المهام، إضافة إلى البرامج ذات القدرة على تحسين التكيف والوعي بالمجالات السياقية للترجمة الآلية. 

ففي ظل التحوُّل الرقمي واللجوء إلى السياقات متعددة اللغات؛ فإن التحديات التي تواجه تلك الترجمات تمثِّل قلقا للمشتغلين في هذا القطاع عموما. فعلى الرغم من تقدم هذه البرامج والأنظمة التقنية وتطويرها المستمر، إلاَّ أنها غالبا ما تفتقر إلى المرونة وضوابط الجودة التي تتطلبها الترجمات التخصصية، مثل الترجمة القانونية أو الطبية أو الأدبية أو غيرها؛ ذلك لأن هذه البرمجيات ذات أنظمة تقنية تحاول الولوج إلى متطلبات تلك اللغات البرمجية، غير أنها لا تمتلك القدرة على التفكير في تكامل الأدوات اللغوية التي تتطلبها خصوصية بعض النصوص. 

ومع إنتاج البرامج اللغوية الكبرى التي تعتمد على مجتمع معالجة اللغات الطبيعية فإن الترجمة الآلية واحدة من أبرز المتطلبات التي لا بد أن تكون قادرة على تحويل اللغات البشرية وتحليلها، ومدعومة بخوارزميات التعلم العميق؛ حيث أصبحت الترجمة منفتحة على مجموعة من النصوص اللغوية والبصرية، فهي قادرة على تحويلها من شكل إلى آخر، وهو مفهوم إدراكي لما تمثله الترجمة من قدرة تواصلية وثقافية متعددة الأوجه، الأمر الذي توسَّعت وتطوَّرت أنماطه في ظل برامج الذكاء الاصطناعي. 

لذا فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تكافح اليوم في محاولة الوصول إلى أعلى مستوى من الدقة في الترجمة الآلية التي تراعي ثقافة المجتمعات وخصوصيتها، والسياقات اللغوية في كل لغة، بل حتى الأشكال الغامضة والمعقدة التي تدخل ضمن التعبيرات الاصطلاحية الخاصة بها. وهي محاولات مضنية قد نجدها في الكثير من البرامج التي سهَّلت حياة المجتمعات والأفراد للوصول إلى المعلومات والبيانات، والاطلاع على التطورات الحديثة، والتواصل مع الآخر، إضافة إلى أهميتها في التعريف بالمنجزات الحضارية ونقل الثقافات. 

إلا أنَّ التوسُّع في استخدام برامج الترجمة الآلية الذكية تلك يشكِّل مخاوف على المستوى الأخلاقي والثقافي؛ إذ يعتقد المشتغلون في هذا المجال أنها تهدِّد (تجانس التنوع اللغوي) عبر التحيُّز للغة ما دون غيرها في ترجمة النصوص. كما أن هذه المخاوف تزيد في الترجمات الطبية والقانونية، وتنعكس على جودة الترجمات وموثوقيتها، وكذلك حساسيتها الثقافية والمجتمعية التي مهما حاولت البرامج التقنية وتطبيقات الترجمة الآلية الوصول إلى خصوصيتها فإنها لن تستطيع الولوج إلى كُنه جوهرها الفكري وسياقاتها التعبيرية؛ فالترجمة ليست نقل لغة إلى أخرى بقدر ما هي قوة ثقافية مؤثِّرة على المستويات الحضارية والتنموية والأمنية في الدول. 

في (ملتقى كُتَّاب العالم.. دور الثقافة في دعم السلام) الذي نظمته المنظمة العالمية للكُتَّاب (WOW) وعُقد في موسكو خلال 20-21 سبتمبر الحالي كان موضوع (مستقبل الترجمة في ظل الذكاء الاصطناعي) أحد محاور مناقشات الطاولة المستديرة التي شاركت فيها مجموعة من الكُّتاب والمترجمين من دول العالم. وقد خرج المناقشون بمجموعة من النتائج التي ركَّزت على عدم قدرة تلك البر امج على ترجمة العديد من النصوص التخصصية خاصة النصوص الأدبية التي تحتاج في ترجمتها إلى عمق فكري ولغوي وعاطفي إضافة إلى أهمية الغوص في ثقافة المجتمع، وخصوصية اللغة، وسياقاتها ومجازاتها التعبيرية. 

فمع الإيمان بأهمية تلك البرامج خاصة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وقدرتها على الترجمة الآلية، غير أنها ما زالت غير مؤهلة على المستوى الأدبي لأن تكون معتمدة في ترجمة النصوص الشعرية وحتى النثرية. وقد أثار المناقشون في ملتقى (WOW) مجموعة من التحديات التي تواجه الترجمة الأدبية الآلية سواء على المستوى الأخلاقي والتحيُّزات الخوارزمية، أو الكفاءة والدقة اللغوية؛ وبالتالي فإنها ترجمات لا يمكن اعتبارها (أدبية) ما لم تخضع لرؤية مترجم بشري محترف قادر على الولوج إلى عمق النص، وفهمه، ونقله من عالم ثقافي إلى آخر وفق مقتضيات اجتماعية وثقافية ولغوية واعية؛ ذلك لأن الترجمة الأدبية لا تقوم على البنية اللغوية للغة ما وحسب، بل تعتمد على فكر تلك اللغة، وجوهرها الإنساني. 

وفي هذا فإن العالم يحتفل في الثلاثين من سبتمبر من كل عام بـ(اليوم الدولي للترجمة) الذي يبرز دورها في حياة المجتمعات، ويحتفي بالمترجمين الذين يؤدون دورا بارزا في التقريب بين الدول، والتعريف بالثقافات الإنسانية، ويدعمون الحوار والتفاهم، ويسهمون في التنمية من خلال ما يقدمونهم لشعوبهم وللعالم من ترجمات تدعم تطلعات التنمية، وتعزِّز الفكر الحديث المستنير، وتحفظ الأمن والسلام؛ فهذا الاحتفال يُعد اعترافا بهذه الأهمية، وإقرارا بما تقدمه الترجمة في المجالات المهنية والإنسانية، وما ترسِّخه من مفاهيم أسهمت في انفتاح المجتمعات وتواصلهم الإيجابي. 

إن الاحتفال باليوم الدولي للترجمة يُسهم في دعم تطلعاتها على المستوى التنموي بما في ذلك أثرها على الهُوية الوطنية المنفتحة، وأهمية نقل الثقافات المجتمعية إلى الآخر، ودعم التكامل الاجتماعي والتعليم، إضافة إلى قدرتها في تعزيز الوعي بذلك الدور الذي تؤديه اللغات الإنسانية بتنوُّعها في دعم أسس الحوار بين الثقافات، وبناء مجتمعات المعرفة القائمة في الأصل على ذلك التنوُّع، والانفتاح المعرفي؛ ولهذا فإن الاهتمام بالترجمة يُعد ضرورة أساسية خاصة على المستويات المهنية والعلمية المختلفة. 

فالترجمة لا تزدهر بالاحتفالات الرمزية بقدر العمل الفعلي على بناء منظومة مؤسسية تعتني بالترجمة عموما والتعريب بشكل خاص؛ لما يمثله ذلك من أساس تنموي يقلِّل من الفاقد المعرفي من ناحية، ويعزِّز مفاهيم الحداثة والتطوير وفق منظور وطني ورؤية مستقاة من المعطيات الحضارية والثقافية للدولة، فلا يكفينا اليوم ما توِّفرة الشبكات تقنية والبرامج الإلكترونية من تطبيقات للترجمة الآلية، بل يجب أن تكون المعارف المترجمة قادرة على الولوج إلى ثقافة المجتمع تستقي منظورها الحضاري في ترجمة النصوص ونقلها. 

لذا علينا المضي قدما في تأسيس رؤية متكاملة بشأن الترجمة، وعدم الاعتماد الكلي على الترجمات الآلية وإن كانت مهمة بشكلها العام، إلاَّ أن قوة الترجمة المعرفية وخصوصيتها الثقافية واللغوية تفرض تلك الرؤية، وتقدِّم نفسها باعتبارها أولوية وطنية؛ فعلى الرغم من الجهود التي تقوم بها بعض المؤسسات المعنية، وما يقدمه المترجمون من مبادرات في كافة المجالات إلاَّ أن الترجمة في عُمان تحتاج إلى تبنٍّ ودعم قائم على استراتيجية واضحة، وخطة عمل تدعم الأهداف الوطنية، فلن نؤسِّس مجتمع معرفة سوى بتعزيز الترجمات، ودعمها وفق منظور وطني واضح. 

إن المجتمعات المعرفية هي تلك التي أسَّست منظومة معلوماتية قائمة على الإنتاج المعرفي من ناحية، وترجمة المعارف إلى لغتها من ناحية أخرى؛ فكم من مصادر عمانية عظيمة معرفيا وعلميا ما تزال تنتظر دورها في الترجمة، وكم من معارف عظيمة في لغات ثرية ما زالت لم تصل إلينا؟!. 

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة