أوكرانيا في وجه العاصفة
مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي تدخل شهرها التاسع بدأت ملامح هذه الحرب القاسية في الظهور على الصعيد الإنساني وعلى صعيد تدمير المدن بل إن التقديرات الأوكرانية لإعمار البلد بعد نهاية الحرب تقترب من ٨٠٠ مليار دولار، وهي مبالغ كبيرة لا يمكن توفيرها لا من الولايات المتحدة الأمريكية ولا الدول الغربية ولا من دول العالم المختلفة. ومن هنا فإن تلك الحرب والأسباب التي أدت إليها تظل يكتنفها الغموض على صعيد المواجهة الروسية الغربية وهو ما يحدث الآن، والسؤال هل كان بالإمكان تجنب تلك الحرب؟ والإجابة نعم من خلال الحوار الروسي الأوكراني ومن خلال إعلان كييف أنها ليست بصدد الانضمام إلى حلف الناتو ولكن يبدو أن مسألة الحرب واندلاعها يكتنفها الكثير من التساؤلات، كما أن أوكرانيا -في تصوري- دفعت إلى تلك المواقف حتى تصبح بمثابة كبش فداء لتلك الحرب الكارثية وهو ما يحدث الآن، حيث تحولت الحرب إلى حرب بالوكالة بين موسكو وواشنطن علاوة على دول الاتحاد الأوروبي.
الحرب تدحرجت إلى وضع معقد تداخلت فيه المواجهة الاستراتيجية والاقتصادية ولعل حرب الطاقة هي أحد المحاور الأساسية للحرب في ظل سيطرة روسيا الاتحادية على الغاز بكميات كبيرة وعلى أساس أنها المصدر الأول للدول الغربية مثل ألمانيا وإيطاليا والنمسا وبولندا والمجر ودول أخرى كالصين والهند واليابان. من هنا تتحول الحرب الروسية الأوكرانية ليس فقط إلى حرب استنزاف مكلفة إنسانيا واقتصاديا وعسكريا وحتى أخلاقيا ولكن تتحول إلى حرب إرادات بين أطراف متعددة تتحدث عن ضرورة إيجاد عالم متعدد الأقطاب بعيدا عن السيطرة الأحادية للولايات المتحدة الأمريكية التي تتواصل منذ عام ١٩٩١ وهو العام الذي شهد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق.
إن العالم ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية لن يكون هو العالم ما بعدها وهذا يرجع إلى جملة من المتغيرات التي ظهرت من خلال تحولات الحرب، ولعل الحرب الاقتصادية والتكتلات المختلفة تعطيان مؤشرا على أن دولا كالصين والهند تتطلعان إلى لعب دور دولي أكبر، وأن موضوع الهيمنة الأحادية لم يعد مناسبا لهذا القرن بكل تداعياته، كما أظهرت الحرب خطورة السلاح النووي والتلويح به مما أدخل العالم في لحظات فزع حقيقية، كما أن أهداف الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هو استقطاب مزيد من الدول المحيطة بروسيا الاتحادية للدخول في حلف الناتو، وهذا خطر أمني كبير ليس فقط على روسيا الاتحادية ولكن على الصين تحديدا، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر المواجهة الاستراتيجية فيما تبقى من القرن مع عملاق آسيا والذي ينطلق لأخذ المركز الأول اقتصاديا وهو ما تؤكده كل المؤشرات حتى من داخل المراكز البحثية الأمريكية.
وعلى ضوء ذلك فإن مجمل أحداث الحرب الروسية الأوكرانية تتجه إلى مسارات خطيرة إذا لم تحسم عسكريا أو سياسيا خاصة من الجانب الروسي الذي تتمثل أهدافه الآن في السيطرة على المناطق الأربع في شرق أوكرانيا التي شهدت نتائج الاستفتاء رغبتها لتكون جزءا من الاتحاد الروسي، وهذه مسألة تخضع للقانون الدولي ولمعايير عديدة بدليل أن أكثرية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة رفضوا القبول بالسلوك الروسي.
إن أوكرانيا في عين العاصفة -كما يقال- وإن الحكمة السياسية كانت تقتضي تجنب الحرب وإيجاد خيار الحوار مع الجار الروسي لأن خيار الحرب سواء اتخذته القيادة الأوكرانية أو دُفعت إليه يدفع ثمنه الشعب الأوكراني، وعلى صعيد آخر هناك مقاربة سياسية تقول إن موسكو تسرعت في الحرب أو ربما شعرت أن أمنها القومي مهدد خاصة إذا قُبلت أوكرانيا عضوة في الناتو، هنا على موسكو مواجهة الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وهذه مسألة أكثر تعقيدا من الحرب نفسها لأن الحرب العالمية الثالثة سوف تكون هي الخيار للأطراف بشكل عام لأن المسألة هنا سوف تكون متعلقة بالأمن الروسي بشكل خاص.
إن ضم أقاليم لدولة أخرى تحت أي دعاوى عرقية هو أمر غير مقبول قانونيا لأن حدوث ذلك سوف يفتح المجال في دول ذات أعراق مختلفة وهنا سوف تندلع حروب وصراعات لأسباب مختلفة ولعل نموذج حرب البلقان أدى إلى تفكك يوغسلافيا الاتحادية إلى دول متعددة بناء على قضايا عرقية وتاريخية.
ومن هنا فإن المشهد السياسي والعسكري في أوكرانيا أصبح أكثر تعقيدا وأكثر دمارا في ظل تحول الحرب إلى حرب أكثر شراسة وهناك تطور نوعي في الهجمات المتبادلة على المراكز الحيوية المدنية وهذا التطور قد يؤدي إلى حرب شاملة غير مأمونة النتائج وسوف تدخل العالم في حالة من عدم اليقين في ظل التهديدات باستخدام القنابل الفتاكة أو ما تسمى بـ«القذرة» وهو تطور نوعي خطير في ظل تمسك كل طرف بأهدافه الأساسية، وفي ظل إصرار غربي على الذهاب في الحرب إلى النهاية رغم المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدول الغربية بشكل خاص، وفي ظل أزمة الطاقة مع اقتراب الشتاء القارس في أوروبا، وعلى ضوء هذه المعطيات فإن الحرب الروسية الأوكرانية تدخل في مسار لا يمكن التنبؤ بما سيحدث في ظل تدفق الأسلحة الهجومية الأمريكية والغربية لأوكرانيا وفي ظل الحشد العسكري الروسي واستخدام الأسلحة المتطورة والمسيّرات، وأمام هذا المشهد يراقب العالم مصير الحرب التي تعد الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة أنها مواجهة أصبحت واضحة بين موسكو وواشنطن بشكل محدد، والسؤال الأهم هل يفوز الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية بالانتخابات النصفية للكونجرس وتبدأ مرحلة جديدة من الحرب أهمها قطع التمويل الأمريكي العسكري والمالي لكييف وبالتالي نشهد نهاية دراماتيكية لهذه الحرب؟ هذا هو السؤال الكبير.
