«أوامر القبطان» والانتهازية الاستراتيجية... من يكسب الرهان؟

19 مارس 2024
19 مارس 2024

عندما تتعرض السفينة أو الطائرة لحالة استثنائية، فإن الأنظار تتجه نحو القبطان، فهو يجسد متخذ القرار بشأن اعتماد أي تغيير في اتجاه الرحلة، ووضع تدابير السلامة، وتوقع الخسائر من اختيار خطة الإنقاذ، وتحديد الموارد التي يحتاجها في إدارة هذه الحالة الطارئة، وهنا لديه خياران لا ثالث لهما؛ فهو إما أن يتخذ منحى التفكير الاستراتيجي فيحدد الهدف أولا، ثم يبحث عن الموارد المطلوبة، ويصدر الأوامر المباشرة للتنفيذ، أو أن عليه اتباع نهج الانتهازية الاستراتيجية، فيبدأ بتحليل فرص النجاة المتاحة أمامه، ويقتنص الفرصة التي تحقق الحد الأقصى من النتيجة المرجوة، أو الهدف المحدد، وبأقل نسبة ممكنة من الخسائر، وبذلك يمكنه إنقاذ جميع الأرواح، وإيصال الرحلة إلى وجهةٍ آمنة، ولكن عالم الأعمال والإدارة المؤسسية أكثر تعقيدا من عمل القبطان، وهذا ما يضع المخططين في مهمة عسيرة، فعملية اتخاذ القرارات تعتمد بشكل حاسم على نقطة الانطلاقة، والسؤال هنا: ما هي معايير التفاضل التي بها يرجح صانع القرار الاختيار الأمثل بين التفكير الاستراتيجي النمطي، والانتهازية الاستراتيجية؟ وهل يمكن أن تؤثر وبشكل عكسي محاولات اقتناص الفرص الناشئة لتكون بمثابة العدسة المعتمة التي تصرف الانتباه عن الأهداف، وتحجب الرؤية الاستراتيجية؟ تعالوا نبدأ من المفهوم النظري لمصطلح التفكير الاستراتيجي، نجد بأن السمة الغالبة في المقالات العلمية التخصصية هي عدم وضوح التعريف الدقيق لهذا المصطلح، فهناك مدارس فكرية متباينة، وهذا يضعنا أمام معضلة كبيرة من تعدد الرؤى التي يتم بها التعامل مع هذه المفاهيم المهمة لعملية صناعة واتخاذ القرار، وإذا أردنا أن نستشهد بمثال حي يمكننا أن نتوقف قليلا عند الجدل حول أداة العصف الذهني وهي إحدى أدوات التفكير الاستراتيجي، إذ يعدها الكثير من الممارسين كأداة لتوليد الأفكار الإبداعية والابتكارية، ولكن هذا المفهوم غير صحيح بشكل جازم، فالعصف الذهني في واقع الأمر ليس سوى أداة لتشجيع التواصل بين فرق العمل عبر التفكير بصوت مرتفع، وكذلك من أجل تحفيز الإبداع والتفكير التجديدي، ولكنه لا يمكن أن يحل محله، إذ لا يمكن للعصف الذهني أن يستخرج من عقول وأذهان المشاركين ما هو غير موجود بالأصل، وفي الإجمال يقوم التفكير والتخطيط الاستراتيجي على مجموعة من الأدوات الذكية ومن ضمنها الانتهازية الاستراتيجية، وهذا ما يزيد من تعقيد موضوع صناعة واتخاذ القرار عن طريق المفاضلة بين المنطلقات، وبرغم الاختلافات الكثيرة في تعريف التفكير الاستراتيجي، إلا أن هناك خمسة عناصر للتفكير الاستراتيجي لا يختلف عليها المخططون وهي: التركيز، وتبني منظور النظم، والاستجابة في الوقت المناسب، وبناء الفرضيات، والانتهازية الذكية.

وهذا يقودنا للفكرة المركزية هنا؛ وهي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المطلوب وبأقل الموارد وأدنى درجات المخاطر، فالأفكار الاستراتيجية الداعمة لمثل هذا القرار لا تأتي من الفراغ، فهي إما أن تكون مدفوعة بالتمحور حول الهدف، أو البحث عن الفرصة، وفي الحالتين تنشأ مصادر للانحياز المعرفي السلبي التي تحجب الرؤية الاستراتيجية، وهي إما الواقعية الساذجة التي يعرفها المختصون بأنها تتعلق بالاعتقاد بأن صانع القرار يدرك واقع الوضع الراهن بشكل كامل، أو حالة الانحياز التأكيدي التي تنشأ نتيجة ميل صانع القرار بتجاهل المعطيات التي لا تتفق مع انطباعه الأولي عن التحديات، فيتجه بشكل لا إرادي للبحث عن المعلومات والبيانات وتفسيرها واستدعائها بطريقة تؤكد مسار تفكيره، والانحياز الثاني أكثر احتمالا في حالات اتخاذ القرار في وضع «قرار القبطان»، ولذلك فإن المنهجية التي يتم بها توجيه عملية صنع واتخاذ القرار تلعب دورا كبيرا في نجاح أو فشل فرق العمل أو المؤسسات، لأن احتمالات الإعتام الكامل على الأهداف الاستراتيجية عالية، إذا ما وضعنا في الحسبان فرضية غياب المخططين القادرين على اختبار الفرضيات، وطرح الأسئلة الصعبة، مثل «ما الذي لا يمكننا أن نراه في هذا التحدي؟»، و«ماذا لو لم يكن أيُّ من هذا صحيحًا؟» و«كيف ولماذا يمكن أن يكون هذا التحليل صحيحا؟» وإذا عدنا للعناصر الخمسة الرئيسية للتفكير الاستراتيجي نجد أن عنصر التركيز يتربع على قمة الهرم، لأن تقليل الازدواجية ومقاومة التشتيت توفران على الفريق أو المؤسسية الكثير من الموارد، فالتركيز الواعي بالهدف الاستراتيجي، أو التوجه الشمولي يعني تنظيم الطاقات المطلوبة وتوجيهها نحو مسار واحد، وأثناء هذه المسيرة المشتركة يمكن اكتشاف العديد من الفرص الذهبية، وبذلك فإن انتهاج التفكير الاستراتيجي هو الأصل في تهيئة الانتهازية الاستراتيجية، وهذا لا يمكن تحقيقه بدون النظرة الشمولية التي تتعامل مع الواقع من منظور الأنظمة، وليس من جانب واحد، فالتحدي قد يكون اقتصاديا ولكن الجذور الحقيقية قد تمتد لتشمل أبعادا أخرى غير واضحة من الوهلة الأولى، وهناك مقولة شهيرة في عالم التخطيط مفادها: «من المفيد حقًا أن تكون فضوليًا بشأن كل شيء تقريبًا»، وإضافة إلى ذلك فإن عامل الزمن يفرض على المخططين أهمية الالتفات إلى عبور الفجوة بين الأداء السابق الذي نتج عنه التحدي، وواقع الوضع الراهن، والأداء المأمول مستقبلا، فالمفكرون الاستراتيجيون لا يسعون لاكتشاف الفرص الجديدة والتفاعل معها لتحقيق الأهداف وحسب، وإنما هم يعملون في سياق عالمنا الديناميكي بقدر كاف من الانفتاح على التغيير الإيجابي كموجهات للوصول إلى الرؤية الاستراتيجية.

أما إذا ما انتقلنا إلى الناحية التطبيقية لممارسات صناعة القرار على مستوى فرق العمل والمؤسسات نجد أنه من الصعب المفاضلة بشكل قاطع بين «أوامر القبطان» والانتهازية الاستراتيجية، ففي بعض الحالات يمكن الاعتماد بشكل كلي على أوامر القبطان، لأن الخيارات المتاحة لا تسمح أحيانا بالمناورة الاستراتيجية في تحويل بعض جوانب التحديات إلى فرص، ولكن المخاطر الرئيسية التي تصاحب هذا النهج هو الاعتماد الكبير على المعرفة الذاتية، والقدرات الشخصية، والخبرة السابقة، فإذا نجح القبطان في السابق باتخاذ قرار استراتيجي صائب في حالات شبيهة بالوضع الراهن، فإن ذلك لا يضمن نجاح القرار في هذه المرة أيضا، ولا يبرر ذلك مطلقا التراجع عن استكشاف رؤى جديدة، ومسارات عمل مختلفة عن الماضي، وهنا قد تكون الانتهازية الاستراتيجية هي كل ما تحتاجه لصناعة قرار موضوعي متوافق مع الرؤية الاستراتيجية، وبذلك فإن التوازن بين المنهجين هو الحل الأمثل، فهناك وقت للانتهازية، ووقت للتفكير الاستراتيجي الممنهج، والنقطة الفاصلة هي عامل الوقت، ففي الحالات الاستثنائية يكون التركيز على الرؤية من منظور تحقيق حلول سريعة تستجيب للمؤثرات الطارئة، وأما في الحالات الاعتيادية يختلف المنظور بشكل جذري، فالأولوية تنتقل من الاستجابة إلى الاستدامة، وصناعة القرار هنا يستمد ركائزه من غايات مستقبلية وبعيدة المدى.

إن التفكير بشكل استراتيجي يحتاج إلى أكثر من مجرد رسم الرؤية المستقبلية، وتحديد الأهداف، ووضع القرارات التي يمكنها دعم تحقيق الرؤية المنشودة، ففي عمق هذا التفكير يمكن إطلاق العنان لعملية إبداعية متصاعدة من الأفكار الجديدة، والفرص الناشئة غير المسبوقة، ولكن تتطلب هذه العملية الالتزام الكامل بالتجديد النوعي بعيدا عن النمطية، والمحافظة على وضوح الرؤية الشاملة والمشتركة، والتركيز المستمر لمنع انحراف عملية صنع القرار عن أهدافها الأساسية، وذلك إما بالاستجابة لكل تحد يظهر في مرحلة التنفيذ، أو بالانشغال باقتناص الفرص الصغيرة السهلة التي لا تصمد في دعم الوصول للوجهة الاستراتيجية المخطط لها، مما يفرض التأني في توظيف الانتهازية الاستراتيجية من أجل تعزيز المكاسب الآنية والمستقبلية، فليست كل فرصة هي الخيار الأفضل لتسريع الوصول للوجهة المطلوبة، فهناك حالات عديدة من سوء استخدام منهجية الانتهازية الاستراتيجية، والتي تسببت فيها حالات اقتناص الفرص بشكل غير مدروس بإحداث تأخير أو إعاقة كاملة في الوصول للوجهة المنشودة، وبناءً على الفرص وحدها، فإن صناعة القرار لن تضمن أبدًا الأداء المخطط له في المستقبل طويل المدى، وكذلك لن تتمكن من تحديد النتائج قصيرة المدى، وبهذه الكيفية يُعد هذا النهج قاصرا عن توظيف الإمكانات الكاملة، ففي سبيل صناعة القرارات الداعمة للأهداف، فإن لجميع المناهج دورا وتأثيرا ولا يكمن مفتاح النجاح في التفاضل بين المناهج، وإنما في التوازن وتكامل الأدوار.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار