أنا أتذمر إذًا أنا جيد
إن رجلا- أو امرأة طبعا في هذا السياق- لا يتذمر ربما يكون فاقدا للاهتمام ببني جلدته ومن يعيش حوله وينتمي إلى ما ينتمي إليه، وفقدان الاهتمام بالشأن العام- ناهيك بالخاص- هو أبعد ما يكون عن دعوى هذا المقال.
ولأنني كنت أعمل في طبيعة أخرى من الأعمال لا تتقاطع معه كثيرا؛ فقد شدني الفضول -وربما الشفقة عليه- أن أتابع مع من حوله من زملائه ورؤسائه حيثيات هذا التذمر الطافح؛ لأعرف فحسب أن ذلك الموظف من أسوأ الموظفين أداء لأعماله. فتذمره -بالتالي- ما كان إلا بسبب تقصيره في عمله شر تقصير؛ فكأنما حل التذمر محل العمل، وبات من ثمَّ تبريرا للتقصير. حسنًا؛ علينا طبعا ألا ننساق في التعميم المخل؛ فليس كل موظف شبيها بموظفنا هذا؛ فأنْ شدني الفضول لمعرفة منشأ تذمره إنما هو (هذا الشد) بحد ذاته دلالة على أن الإخلال بالعمل ليس ديدن الموظفين الآخرين الذين حصل أن صادفتهم وتقاطعت معهم، بيد أن فعل التذمر - شئنا أم أبينا، والحق يجب أن يقال- قد يكون سببه التقصير في أداء العمل.
ومرة أخرى سيأتي من يقول هنا: إن من سرق غير من فكّر في السرقة، ولا تراني أعارض هذا القول أبدا؛ فعمل السارق شر من نيته، وإنما أعارض أن يمر تذمره على الآخرين مرور الكرام، بل أن يجد من يصفق له هذا التذمر المذموم.
فلو أنه قيض لأحدنا أن يدخل مع مسؤول ويسأله عن حل لمشكلة ما فهناك احتمال وارد جدا أن يباشر المسؤول هو الآخر بالتذمر، وهو بهذا إنما يلقي بالمسؤولية على من فوقه أو من تحته، وهو بعمله هذا يتنصل من المسؤولية عن إيجاد حلول للمشكلة المطروحة للنقاش.
أمّا لو قُيض لنفس هذا الأحد أن يلتقي بمسؤول سابق فقد يلاقي عجبا؛ فلكأن الوضع ساء جدا بعد أن ولّى عهده وتولّى تاليه، ولن يداخله الشك (أي المسؤول السابق) أن المشكلة – ولو بنسبة بسيطة منها- ربما تكون بدأت في عهده، كلا؛ فإنما سببها تاليه وليس أحدا سواه. الجميع مرؤوسين ورؤساء عن حق أو باطل، عن علم أو جهل يوجهون سبابتهم بالتالي إلى مكان آخر غير مكانهم أو شخص آخر عير شخصهم إلى الأعلى والأسفل والسابق واللاحق والجالس والقائم: المهم أن سبب المشكلة بقضها وقضيضها ملقى على عاتق شخص آخر غير المتذمر ذاته، وليكن هذا الآخر أيا كان، حتى لو كان القدر نفسه وطبيعة البشر أنفسهم والزمن ذاته.
وهؤلاء هم من يزخّم حجم التذمر ليصل إلى مداه الواسع، وهم من يجعلونك تظن أن لا شيء جيدا أبدا في هذه الحياة، وأن على المرء أن يبدأ في ندب حظه وانتظار مصيره القاتم القادم لا محالة.
وإن كان هؤلاء يتذمرون ليكونوا مع الجماعة، فلا شك أن آخرين يتذمرون ليهدئوا من القلق العارم الذي ينتابهم؛ ففعل التذمر ذاته قد يكون تنفيسا لما يعتمل في دواخلهم. فلأنه لا يمكنهم أن يقوموا بفعل التغيير، بل لا تساعدهم مهاراتهم ولا مواقعهم في فهم أصول المشكلات ولا في الوصول إلى حلول لها؛ فلا أقل بعدُ من أن ينفّسوا عن أنفسهم بالكلام؛ فعلّ الكلام أن يكون حيلة العاجز.
كما أن هذا التذمر الشامل يخفّض من أهميته ذاتها، فلا يعود ثمة ما يمكن أن يقال إزاءه إلا أنه حالة عامة لا يمكن أن فهمها إلا بأنها عدوى أصابت الجميع؛ وبالتالي لا يمكن أن تؤدي في حد ذاتها إلى حلول حقيقية.
لكنْ في النهاية ينبغي القول أيضا: إنه من حق الجميع أن يتذمر، وإن كان التذمر هذا سيجعلك أسعد بطريقة ما أو يخفّف من قلقك ومشكلاتك الداخلية أو يجعلك أقل عرضة للعزلة الاجتماعية فلا شك أنه متروك لتقديرك أن تستمر في دربه إلى آخره، وتنغمس في لجته حتى قاعها. أحذر فحسب أن يجرك هذا التذمر لتضخيم المشكلات أو اختلاقها أو البعد بنظرك عما هو مهم وحقيقي، وفي كل الأحوال من الجيد أن يكون لك عدة من المنطق البسيط في نقد سيل التذمر الذي يلقيه عليك من أمامك؛ فلا داعي لتصديق كل ما يقوله.
