أمزجة المقهى

07 نوفمبر 2021
07 نوفمبر 2021

للمقاهي أمزجة مختلفة، تتنوع بتنوع مرتاديها واختلافهم، وليس الحديث هنا عن المشروبات التي تقدم في المقهى وحسب، بل تتضمن محتوى المقهى من تفاعل رواده اجتماعيا، أدبيا، وسياسيا.

وقد ارتبطت المقاهي في تاريخ كثير من الشعوب بالثقافة و حواراتها ومحفزاتها، حتى أن كامل مصطفى رحومة في كتابه "المقاهي الثقافية في العالم" يقول: "وُجدت المقاهي قبل دخول مشروب القهوة مصر العام 905هـ وكانت تقدم أنواعاً أخرى من المشروبات" وهذا يذكرني بمروري يوما ما بمقهى على الطريق لم يكن يقدم قهوة ولا حتى شايا مع أنه يحمل اسم "مقهى" لكنه لم يتناول أي منطلق ثقافي فكري كذلك، وربما أغرى اسم "مقهى" صاحبه لجذب زبائنه العابرين من محبي المقاهي، سمعة أو مشاركة.

وهنا يمكن لسؤال حيوي أن يتبادر إلى أذهاننا، وهو "لماذا نذهب للمقهى؟" وقد يأخذ عشاق القهوة في العالم الحماس لمحاولة إثبات أن القهوة هي السبب الرئيس لارتياد المقهى. ومع تقدير القهوة ومميزاتها وخصائصها ونكهاتها فلا يمكن لشرب القهوة أو الشاي أو أي مشروب آخر أن يكون سببا وحيدا لارتياد المقهى، ولو كان الأمر كذلك لفضّل الناس تناول مشروباتهم المفضلة في المنزل.

يقودنا البحث عن سبب ارتياد المقاهي يقينا للحوار، سواء كان هذا الحوار وديا عابرا أو حوارا اجتماعيا ناقدا، أو حوارا فكريا ثقافيا عاما، ولطالما كانت المقاهي في العالم مراكز انطلاق كثير من المواهب فنيا و أدبيا. ولا عجب في ذلك حين يجد مرتاد المقهى جمهورا مختلف الرؤى والأفكار، سعى لهذا المقهى أو ذاك متأملا أو راغبا في اكتشاف مجتمعه عبر استقراء هذا المجتمع الصغير في هذا المنبر. فيلتقي في المقهى بكاتب يشار له بالبنان، أو آخر ما زال يتلمس خطواته الأولى متلقيا عن سابقيه - في المقهى والكتابة - فنون القول أو الفن أو كليهما. قد يلتقي شاعر بملحن، أو ملحن بمنتج، قد يلتقي فنان بآخر أو بداعم محب للفنون. وقد يعرض هذا الناشئ عمله على غيره في المقهى كذلك، فيجد مساحة من النقد والتحفيز، أو الهجوم والتثبيط مما قد تضيق به الصحف أو المجلات الدورية صعبة الوصول.

فيبدأ في منصته الأولى – عبر المقهى – حياته الإبداعية، مطلعا على أعمال غيره، محاورا حول مضمون إبداعه، مستعدا لأفكار ومشاريع أخرى يبهر بها جمهور المقهى الأثير.

يتحول المقهى كذلك إلى منطلق للاستغراق في الذات والناس، فيقرأ الكاتب فيه وجوه الناس، ويستقرئ أصواتهم المختلفة، وثرثراتهم المترامية التي تنقل له هموم مجتمعه، وأفكار معاصريه؛ فتلهمه نصا جديدا، أو تكسبه معرفة قيّمة.

تتنوع أمزجة المقهى وتتباين بأمزجة مرتاديه، وقد تنضم أنت لهواة القهوة أو هواة الشاي ولم تكن من أيهما، ليس لحبك الشاي أو القهوة، ولكن لحبك مساحة الهدوء التي ناسبت شخصيتك في هذا المقهى، أو مساحة الصخب والتفاعل التي تفتقدها وتوافرت لك في ذاك.

ومع التكرار والألفة صار المشروب الذي اعتمدته ذات صمت أو صخب أو إصغاء أو إلهام هو مشروبك المفضل لارتباطه العاطفي الانفعالي بتلك اللحظة من التجلي والراحة.

يحمل المقهى كذلك مزاجا اجتماعيا منشودا، خصوصا لأولئك الذين يشكون من الوحدة أو يعانون الغربة، فتصبح المقاهي بغيتهم لاندماج سريع و تأقلم رائع مع المكان وساكنيه، وقد يكون المقهى أسخى من ذلك إذ يجمعك بصداقات دائمة أو معارف مؤثرة فارقة.

وللمقاهي ذاكرة لا تبلى في كثير من العواصم العربية بين القاهرة، وبغداد، وعمّان، وبيروت، الرباط ودمشق، تونس والجزائر، وفي غيرها من عواصم أوروبية لعلّ من أشهرها باريس والنمسا.

إن كانت المقاهي في الذاكرة العربية تحمل كل تلك الأمزجة وكل ذلك التأثير، فقد تمثلت لدينا في عمان في "السبلة" أو "المجالس العامة" التي لم تخلُ كذلك من تبادل فكري ثقافي اجتماعي مع اختلاف المسميات، كما أنها لم تخلُ من القهوة مع اختلاف الأمزجة والنكهات.

ومع كل ما نعيش من تركيز على العالم الرقمي دون الواقعي، لعلّ من الخير إذكاء شعلة المقاهي من جديد لرفد أمزجة الناس بما ينشدون من تواصل تفاعلي حي عبر المقهى، وأن يمارس دوره التنويري الواقعي السابق، أو حتى تجاوز ذلك لابتكار أشكال جديدة لمقهى ثقافي إلكتروني يجعل من التفاعل والحوار قهوة لا تمل، أو شايا لا يبرد.