أمريكا بلد الصراعات والانقسامات والمفاجآت

21 يونيو 2023
21 يونيو 2023

عندما انتخب باراك حسين أوباما رئيسا لأمريكا في انتخابات 2008 متقدما بفارق كبير في الأصوات على منافسة الجمهوري جون ماكين (توفي في أغسطس 2018)، صاحب السمعة الحسنة حتى بين الديمقراطيين، والذي كان يصفه الإعلام الأمريكي بالبطل القومي باعتباره سجين حرب سابقا في فيتنام، بدا وكأن أمريكا استعادت توازنها بوصفها أمة مهاجرين ملونين، وأن «الرجل الأبيض» ليس وحده صورة هذا البلد، وأن تاريخا من الانقسام والصراع والتمييز بين اللون الأبيض والألوان الأخرى المُشكلّة للمجتمع طويت صفحته؛ فأن تسمح المؤسسة السياسية، بما تعنيه من تقاليد، وما لديها من مصالح، بخوض شاب من أصول أفريقية وإسلامية من جهة الأب، الانتخابات التمهيدية على مستوى الحزب الديمقراطي، وأن تقف معه وتؤيده قواعد الحزب باتجاه رئاسة البلد، ضد مرشحين آخرين، أبرزهم حينها السيدة الأولى السابقة في البيت الأبيض؛ هيلاري كلنتون، فذلك دلّل على أن أمريكا غيّرت، أو هي بصدد تغيير جلدها، وأن منطق الصراع الذي يحكم أصغر الأمم عمرا وأقواها على الأرض، حلّ محله منطق الاعتراف بالمختلف والتعايش معه، وأن التطبيق الفعلي لمقولة «الحلم الأمريكي»، تجليّ في أن شابا أسود من أب كيني مسلم (الأب لم يهاجر إلى أمريكا، جاءها طالبا وتزوج وانفصل وعاد إلى بلاده)، يصعد من قاع المجتمع إلى رئاسة أقوى دولة في العالم.

ذهب معظم القراءات والتحليلات هذا المذهب، واحتفى العالم بهذا التحول الكبير والجذري في الولايات المتحدة. منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للسلام لعام 2009 لأوباما على منجز «الأمل» وحده، فالرجل لم يكن له أي منجز آخر يُسوّغ منحه الجائزة الأهم في العالم، عدا خطاب انتخابي آمل فيه أن يخلو العالم من أسلحة الدمار الشامل، بما فيه البلاد التي يسعى إلى رئاستها.

انتخاب أوباما كان مفاجأة دون شك، وستعقبها مفاجأة أخرى بعد ثماني سنوات.

غير أن منطق الصراع الذي ولدت به أمريكا أكثر عمقا وتجذرا مما بدا من وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض، بل يمكن القول؛ إن انتخاب باراك أوباما بدا وكأنه حدث في غفلة من تاريخ الصراع في هذا البلد، ومن «المجتمع الأبيض» الذي اطمأن لتحكمه المديد في الأمة التي بناها أو أعاد بناءها على جثث سكانها الأصليين، لكن وصول «الرجل الأسود» وعلو صوته أيقظ القواعد النائمة «للرجل الأبيض»، والتي استكانت لتاريخها الخاص وابتعدت عن الحياة السياسية، الأحزاب والانتخابات.

هذه اليقظة تجلّت في استجابة تلك القواعد الشعبية النائمة لخطاب عنصري، فوقي، شعبوي ومتهافت، وللغة رديئة وغير أخلاقية لدونالد ترامب، رجل من خارج الحياة السياسية ولا ماضي له في شغل المناصب العامة، وأكثر ما عرف عنه فضائحه وتجاوزاته الأخلاقية والمالية، ليست الاستجابة فحسب، إنما تبني ما يقوله ترامب، والاحتفاء به، والتدافع وراءه، ودفع التبرعات السخية لحملته الانتخابية.

وكما لم يكن متوقعا وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، رغم مسيرته الحافلة في العمل العام والعمل السياسي وكونه مثقفا ومتحدثا مفوها، لم يكن متوقعا وصول دونالد ترامب، الشعبوي وغير المسيس وغير المثقف، وفوزه في انتخابات 2017.

هناك من رأى أن انتخاب ترامب مرَض ضمن أمراض الديمقراطية التي لا بد منها، لكن الديمقراطية، حسب دارسيها وممارسيها، تحمل في داخلها علاج أمراضها، وهذا ما حصل في انتخابات 2019. غير أن الأمر، ليس بالضرورة، بهذه البساطة. صحيح، لا تزال الديمقراطية هي أفضل نظام للحكم عرفته البشرية حتى الآن، وهو النظام الذي يحمل في داخله علاج أمراضه ومشاكله، لكن الصحيح أيضا أن ثمة أمراضا يستعصي على النظام الديمقراطي علاجها، ومن بين هذه الأمراض «العنصرية» ومبدأ تفوق عنصر على العناصر الأخرى المكونة للمجتمع، ومبدأ الصراع الكامن والذي يقف خلف هذه الأمراض، إلى جانب أمراض الرأسمالية المتوحشة ومبدأ سيادة الأقوى والأغنى. والديمقراطية الأوروبية، الأعرق والأقدم من الأمريكية، لا تزال تعاني مثل هذه الأمراض العصية على العلاج.

ولُدتْ أمريكا من الصراع على الأرض والثروات بين وافدين مستعمِرين، والسكان الأصليين. يُؤرَخ للهجرات الأوروبية الأولى إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي إلى منتصف القرن السادس عشر. وفي مطلع السابع عشر (1607)، تأسست أول مستعمرة انجليزية في فرجينيا هي «جيمس تاون».

قبل وصول الأوروبيين وقيام مستعمراتهم، كانت الأرض مأهولة بسكانها الأصليين، الذين تعود علاقتهم بالمكان، حسب بعض التواريخ، إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. المئات من القبائل كانت تعيش حياة أشبه بالبدائية على أرض غنية بكل شيء تقريبا، لكن «الرجل الأبيض»، الذي سبق وأن استعمر بلدانا، ودمر مدنا قائمة، وقتل شعوبا في أفريقيا والهند والجزيرة العربية، بقوة النار والبارود، فعل الأمر ذاته مع أهل الأرض؛ الأمريكيين الأصليين، فقام المستعمرون الأوروبيون بحروب تطهير واسعة ضد أصحاب الأرض، استخدموا فيها كل أداة ممكنة، بما في ذلك نشر الميكروبات والأوبة التي لم يكن لدى السكان الأصليين المضادات والعلاجات لها.

معظم الأمم والدول ولدت أيضا من الصراع والحروب. دول أوروبا التي نعرفها اليوم ولدت على بحيرات الدم والقتل، لكن المختلف في الحالة الأمريكية؛ أن الاستعمار الاستيطاني تمكنّ من محو أهل البلاد الأصليين أو تذويبهم في ثقافته وهويته الوافدتين، ومن صناعة أمة رغم اختلاف الأعراق والثقافات واللغات، ثم تحوّل المستعمر الوافد إلى «أصيل» أو «الأصيل»، وسواه إلى مهاجرين باحثين عن الحلم المفقود في غير مكان جاؤوا منه.

لا تتشابه مع حالة أمريكا إلا حالة أستراليا، حيث أصبح سجناء التاج البريطاني ومنفيوه والخارجون عليه، أصحاب الأرض على حساب أصحابها الأصليين.

حالة الصراع في أمريكا بقيت حية، تصعد أحيانا وتخفت أحيانا أخرى، وهي اليوم في حالة صعود يهدد بانقسام عميق، ليس بين الأبيض والملون، أو بين من يرى نفسه منتميا إلى العرق المؤسس، وبين المهاجر الوافد، ولكن بين «الإيمانات» و«القناعات» المختلفة، بين يمين متدين محافظ يزداد تدينا ومحافظة، وبين يسار ليبرالي متحلل من أية قيود وقيم وقواعد أخلاقية واجتماعية، وكلما ذهب تيار أبعد في توجهاته ذهب التيار الآخر أبعد في توجهاته المعارضة.

الحزبان اللذان يحكمان الحياة السياسية الأمريكية؛ الجمهوري والديمقراطي، في أسوأ حالاتهما منذ عشرين عاما. الأول يستخدم الدين لحشد مؤيديه. ما قاله حاكم فلوريدا والمرشح المحتمل للحزب الجمهوري في انتخابات 2024، ديسانتس، في حوار لشبكة التلفزيون المسيحي في السادس عشر من هذا الشهر، من أنه تمنى لو كان بين مريدي المسيح ومات معه شهيدا، مثالا بين أمثلة عديدة. والثاني يوظف خطاب المثلية والقبول بالمتحولين جنسيا، بل وفرضهم وفرض رغباتهم على العالم، بصورة متهافتة ومستهجنة ومرفوضة حتى بين قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي، وما قاله الرئيس جو بايدن، وهو مرشح الديمقراطيين إلى انتخابات العام القادم، في احتفال بما يُعرف بـ«شهر الفخر» في البيت الأبيض يوم العاشر من يونيو الحالي بإن «أمريكا أمة مثلية»، مثالا على هذا، بين أمثلة أخرى كثيرة.

لكن أمريكا التي ولدت من الصراع على الأرض والموارد، وعلى ثورة المستعمر الأبيض على أصله (ثورة المستعمرات الثلاثة عشرة على التاج البريطاني عام 1765) لا تزال بلد المفاجآت، والأشهر القادمة حبُلى بما ليس متوقعا، ليس أقلها أن يشاهد العالم أول رئيس سابق يدان في جرائم فيدرالية ويودع السجن، ويخرج مؤيدوه إلى الشارع شاهرين الأسلحة.