أكبر تهديد للحرية في الغرب هو الليبرالية نفسها

30 أبريل 2024
ترجمة: أحمد شافعي
30 أبريل 2024

أدّت محاولة الشرطة في بروكسل منع انعقاد المؤتمر الوطني المحافظ إلى مشهد لا يخلو من تسلية. فبحدوثه في مركز المشروع الأوروبي، أي بروكسل، بدا ذلك الهجوم الصارخ على حرية التعبير والاجتماع بمثابة تعليق لاذع على وهم الاتحاد الأوروبي بأنه يعمل من أجل تخليص القارة المظلمة وإعادة بنائها على أساس القيم الليبرالية.

كان الحاكم المحلي الذي سمح بذلك الاعتداء قد أعلن أن «اليمين المتطرف» غير مرحَّب به في المدينة. وليس من اليقيني أنه يمكن وصف المؤتمر بمصطلح «اليمين المتطرف»، ولكن في الوقت الذي أدلى فيه الحاكم بذلك الإعلان، كانت الأحزاب المنتمية يقينًا إلى اليمين المتطرف تستعد لتصبح قوةً حاسمةً في البرلمان الأوروبي بعد انتخابات يونيو. وقد استؤنف المؤتمر على أي حال بعد أن أدان رئيس الوزراء البلجيكي حظره وبعد أن أبطلت المحكمة الإدارية العليا في البلد قرار منعه.

غير أن ذلك لم يكن المثال الوحيد على زحف الاستبداد. ففي واقعة منفصلة، تم منع وزير المالية اليوناني السابق والمنظِّر السياسي اليساري والمتحدث المؤيد لفلسطين يانيس فاروفاكيس من دخول الأراضي الألمانية والتواصل مع لقاءات عامة في ألمانيا من خلال رابط فيديو. وفي كل تلك الوقائع، لزم الاتحاد الأوروبي الصمت.

قد يبدو تعطيل حرية التعبير لصالح القيم الليبرالية أمرًا ينطوي على مفارقة، لكنه ليس بالأمر المنافي للمنطق. فحرية التعبير ـ بالنسبة لغلاة الليبراليين في العصر الحديث ـ لا تكون مفيدة إلا حينما تطرح مشروعًا تقدميًا. ولكن ردَّهم في مواجهة النقد لا يعدو محاولة قمع النقاش، واللجوء إلى رفع لافتة متزايدة الانتشار هي لافتة «خطاب الكراهية» في مواجهة أي خطاب يرونه مسيئا أو يقدّرون أنه يمثل خطرًا على السلامة العامة.

وكثيرا ما يشار إلى الليبرالي المرجعي جون ستيوارت ميل عند معارضة هذا النوع من الرقابة، فقد قال حقا في كتابه «عن الحرية» (الصادر سنة 1859): إن حرية التعبير يجب أن تشمل حرية الإساءة. ولكنه عندما قال، في المقال نفسه: إن قيمة الحرية تكمن في السلامة الجماعية أو المنفعة الجماعية، حدد أن المنفعة «يجب أن تكون منفعة بالمعنى الأكبر، وترتكز على المصالح الدائمة للإنسان بوصفه كائنًا تقدميًا». فحرية التعبير تفقد أي قيمة حقيقية لو أنها تخدم أهدافًا رجعيةً.

شأن الكثير من غيره من الليبراليين في القرن التاسع عشر، كان جون ستيوارت ميل يخشى صعود الحكم الديمقراطي لاعتقاده أنه يعني التمكين للأغلبية الجاهلة والمستبدة. فعمد مرارًا وتكرارًا إلى التهوين من الجماهير البليدة الراضية بسبل العيش التقليدية.

أما في الوقت الحاضر، فإن الجماهير هي التي تحافظ على الحريات الليبرالية. إذ وصلت سيطرة نيكولا ستورجيون على السياسة الأسكتلندية إلى نهايتها بشكل مفاجئ عند تحديد الهوية الجنسية الذي رفضه أغلب الناخبين؛ لأنه يقوض حرية النساء في امتلاك مساحاتهن الآمنة. والهزيمة المدوية التي منيت بها استفتاءات ليو فارادكار على الحياة الأسرية كانت سببا في تعطيل وربما إحباط مشروع قانون وحشي لخطاب الكراهية في أيرلندا. لقد أطيح بكلا القائدين من جراء مقاومة فرض قيم تقدمية على أغلبية لا تؤمن بها. فالدفاع الأكثر فعالية في مقاومة الطغيان لا يتمثل في وجود مجموعة متزايدة من الحقوق يفسرها القضاة الناشطون بما يتفق مع الأيديولوجية الحاكمة، ولكنه يتمثل في الديمقراطية الفاعلة.

وإذن، فإن التهديد الأساسي للحرية في الغرب لا يأتي من الماركسية أو ما بعد الحداثة أو حتى من النفوذ المتزايد للأنظمة الاستبدادية في مجالس الإدارات والجامعات، ولكنه يأتي من داخل الليبرالية نفسها. فقد تحولت الليبرالية من كونها فلسفة تجريبية، منفتحة من حيث المبدأ على التعلم من خلال التجربة، إلى أن أصبحت رؤية ذاتية المرجعية تستبعد ما تحرمه من الحقائق. ومع انغلاق العقل الليبرالي، أصبح «التفكير النقدي» بمثابة تلاوة لكتاب وعظي، وتمرين هدفه إبعاد أنماط التفكير الأخرى. والهجوم الليبرالي على حرية التعبير هو ـ في العمق ـ محاولة للحصول على سلطة غير مقيدة. ومن خلال تحويل مركز اتخاذ القرار من المداولات الديمقراطية إلى الإجراءات القانونية، يهدف التقدميون إلى حماية برامجهم الخاصة جدًا من المنافسة والمساءلة. وتسييس القانون وتجريف السياسة لا يسيران إلا مقترنين.

ولعل ذروة هذه الاستراتيجية هي الحكم الذي أصدرته محكمة ستراسبورج التابعة لمجلس أوروبا في وقت سابق من شهر ابريل 2024 وأقرَّ بأن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تنص على الحق في الحماية من التأثيرات الضارة الناجمة عن الاحتباس الحراري العالمي. وليس بغريب أن يتم استبعاد التكاليف الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على «العدالة المناخية» من الاعتبار. ولن يؤدي هذا الحكم إلا إلى تعزيز الحجة المؤيدة لانسحاب المملكة المتحدة من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومجلس أوروبا، وهي حجة قوية بالفعل بعد عقود من التجاوزات القضائية. وإنه لأمر دال أن تتخلى الحكومة الاسكتلندية ـ بعد أقل من أسبوعين من إصدار المحكمة حكمها ـ عن هدفها تحقيق صفر الانبعاثات بحلول عام 2030.

ثمة درس هنا يجب أن يتعلمه حزب العمال. فمن وراء الصورة العامة المحافظة التي أنشأها مستشاروه لأغراض انتخابية، يبدو أن كير ستارمر وحكومة الظل التابعة له واثقون ثقة غريبة بأن التاريخ يقف في صف التقدميين أمثالهم. والقليل الذي نعرفه عما يخططون للقيام به عند وصولهم إلى السلطة ينطوي على مزيد من نقل السلطة إلى مؤسسات يقودها التكنوقراط والقانونيون. وفي الكواليس، يعمل توني بلير على ترويج نموذج للحكم تظهر فيه الديمقراطية بوصفها فكرة تالية وغير مريحة.

يثير النفوذ المستمر للتطرف الليبرالي المفرط في الأحزاب التي تزعم الانتماء إلى الوسط ردود فعل سلبية خطيرة. فها هو شبح عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2025 يلوح في الأفق وكذلك دخول مارين لوبان إلى قصر الإليزيه في عام 2027. فالسياسة تعيد تأكيد أولويتها، في حين يسير حزب العمال بكل حزم نحو الماضي.