أصوات من حقبة الفتن الخليجية تعود مجددا .. فما وراءها؟

26 يناير 2022
26 يناير 2022

كنت أعتقد أن صلاحية بعض النخب المتفوهة بالفتن الناعقة بها ليلا ونهار قد انتهت بعد مجيء قادة جدد لبعض العواصم الخليجية، وبعد قمتي العلا في يناير، والرياض في ديسمبر الخليجيتين عام 2021، لكن ظهور بعضها منذ اعتداءات أبوظبي الخميس الماضي، والسكوت عنها حتى الآن يجعلني لا أغادر حقبة الفتن، وتبرز أمامي الآن الآفاق الواعدة لنتائج قمتي العلا والرياض بصورة خافتة، بل مقلق عليها، بعد ما كانت مشرقة، وتبعث على التفاؤل غير المسبوق، ولو تلاشت هذه الآمال، فهذا يعني أن المنطقة الخليجية لم تكن رهاناتها على الفاعلين السياسيين دقيقة، وأنها ستحتاج لصيرورة زمنية طويلة حتى يتم إنتاجهم، وأن دولها ستدخل في أتون تجاذبات ضد بعضها البعض لحقبة زمنية مقبلة، وهذا أسوأ الاحتمالات نستخرجه من مشهد عودة أصوات الفتن فوق السطح الخليجي الآن.

لن نستسلم لهذا الأسوأ وسنظل نمسك بالآمال التي تنتجها القمتان، لكن هناك تساؤلات ينبغي أن تطرح الآن وذلك لاستجلاء أبعاد وخلفيات عودة أصوات الفتن من جهة، وتوقيتها من جهة أخرى، وإذا ما كانت الأبعاد والخلفيات مجردة من السياسة أم لابستها؟ رغم أنها تتكرر وتتسع، ونطاقها يشمل دولتين من الدول الست.

الآن.. هل يمكن اعتبار عودة أصوات الفتن على أنها مؤشر لتراجع المسارات الخليجية الجديدة أم تكتيكات لدفع مسقط للتخلي عن بعض أدوات حيادها التاريخية، مما قد ينظر لهذه الأصوات كمحاولة ضغط أو جس نضبط؟

بعد قمة العلا الخليجية في يناير 2021، كان ينبغي العمل على لجم أصوات الفتنة بالإرادة السياسية الجديدة التي خرجت بها القمة، إذا لم يكن من تلقاء ذاتها، خجلًا وخوفًا، وانصياعًا لرغبة الشعوب الخليجية للوحدة/ الاتحاد، فسياسيا من أول الواجبات الداعمة للمسار الخليجي الجديد. وكان إسكاتها أول المقدمات الضرورية لفتح مسار المصالحة الخليجية الخليجية، والانطلاق للوحدة/ الاتحاد الخليجي، فكيف لم تلجم بعد هذه القمة أو بعد قمة الرياض التي تلتها؟ وكيف تركت تعود لبث سموم الفرقة بين الأشقاء؟

لم أرد الحديث في هذا الموضوع إلا بعد أن بدا لي أن أبواق الفتن لن تتوقف، وأنها في منهجية مدروسة في التصعيد، وهو لا يستقيم مع حجم طموحات وآمال القمتين ولا مع مسار الشراكات الاقتصادية الوجودية بين مسقط والرياض، ولا تفرش الورود لانطلاق المسار الجديد بين مسقط وأبوظبي ولا تساعد على تعزيز القوة السيكولوجية الخليجية «السياسية والديموغرافية» لمواجهة مختلف التحديات الوجودية التي تواجه أنظمة وشعوب دول الخليج.

وقد تابعت أصوات الفتنة منذ أحداث قصف «الحوثيين» أبوظبي الخميس الماضي، ورصدت مجموعة مواقف من نخب ومواقع خليجية وكتاب أجانب مدفوعي الثمن، سأحصرها في أربع فتن من الوزن الثقيل، لنرى مدى خطورتها على علاقات الأشقاء الجديدة؟ ثم ما يستوجب القيام به من قبل منظومة دول مجلس التعاون الخليجي سريعا؟

الفتنة الأولى: محلل سعودي يصنف بأنه سياسي واستراتيجي، يزج باسم بلادنا، وتحديدا ولاية أدم في اعتداءات الحوثيين لأبوظبي قبل الأخيرة وقد تم الرد عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأصوات عمانية عقلانية، بعضها تتهمه بجهل الجغرافيا العمانية، وأخرى تنفي مطلقًا أن تكون الأراضي العمانية منطلقًا للمساس بأمن واستقرار أي شقيق أو جارٍ.

وهنا صوت العقل الذي نمارسه كعمانيين، خاصة الآن بعد ما رأينا السياسة الخليجية تقود المنطقة لتحولات كبرى ستعيد للخليج مواطنته المسلوبة بسبب التشطيرات الجغرافية الاستعمارية، وستجعل أمنهم واستقرارهم ومصالحهم مشتركة، والدفاع عنها واجبا يقع على الكل، وهنا منطقة عقل خالصة، فكيف يذكر اسم مسقط سواء صراحة أو إشارة، وهي لم تفعلها سابقا، فكيف بديهيا تفعلها الآن، وهي تؤسس مع محيطها الخليجي شراكات اقتصادية وجودية، قائمة على تبادل الاعتماد المتبادل، والمصالح المشتركة «ثنائيا وجماعيا»؟

الفتنة الثانية: مغرد إماراتي شهير، ودائما مثير للجدل، يشيد بمواقف الدول المتضامنة مع بلاده، ويستثني مسقط والدوحة، ويعيد للأذهان المشهد المخيف الذي كان قبل قمة المصالحة الخليجية في العلا في يناير 2021، فمنذ أن تفجرت الأزمة الخليجية الخليجية عام 2017، وأصوات الفتنة لم تترك نسبًا ولا أصلًا، إلا وطعنت فيه، وساهمت في إشعال فتنة بين الأسر الممتدة داخل الجغرافيا الخليجية من جهة، وبين دولها من جهة ثانية، فكيف عادت مثل هذه الأصوات مجددا، بل كيف سمح لها سياسيا؟ فمن المعروف عنها أنها لا تعبّر عن آراء خاصة، وإنما محسوبة سياسيا.

الفتنة الثالثة: تسخير كتاب أجانب للضغط الدولي على مسقط.

رصدت ذلك من خلال كاتبين أمريكيين تربطهما علاقات شخصية برموز في دولة خليجية، نشرا مقالا مشتركا في صحيفة عالمية، يهدفان من خلاله إثارة الضغط الدولي على مسقط للتخلي عن الحياد في الأزمة اليمنية، وهذه عودة لظاهرة الكتابات المدفوعة الثمن التي كانت تمارس، فلماذا عادت الآن؟ توقفت قليلا منذ قمة العلا للمصالحة الخليجية الخليجية، وتعود الآن لتسمم الأجواء الإيجابية، وترجعنا للمربع السياسي الأول.

الفتنة الرابعة: حساب إلكتروني معروف الهوية، وشهير، يتطاول على مسقط وبعض رموزها الدينية، في مشهد مكرر ومستهجن، وهو من حقبة الفتن، وعودته الآن، يجعلني أتساءل عن ما يجري في الكواليس؟ وهذه الفتنة الأخيرة أكبر الاستدلالات التي تثبت الضوء السياسي لعودة الفتن الآن، فلولاه، فلا يمكن أن تظهر من تلقاء ذاتها، ما لم تكن وراءها محركات سياسية، وهي لا تنسجم مع المرحلة الخليجية الجديدة التي مقررًا لها استكمال مقومات الوحدة الاقتصادية 2025، والدفاع الجماعي عن أي مخاطر تواجه دولة منها، وجعل جيوستراتيجية السلطنة في خدمة الاقتصاديات الخليجية، وهذه الفتن، والمسكوت عنها من قبل دولها، تعيد تحفظاتنا القديمة المتعلقة بشروط انفتاحنا الإقليمي.

أرى في الفتن سالفة الذكر، بمثابة رسالة سياسية لمسقط، قد جاءت في توقيتها المناسب الآن، ويتولد لدي وعي متجدد بخلفياتها، تعزز ذلك منذ أن قررت بلادنا الدخول في شراكات اقتصادية استراتيجية مع دول أساسية في مجلس التعاون الخليجي مؤخرا، فمهما كانت رهاناتنا الظرفية عليها، واحتياجاتنا للانفتاح الخليجي، فلا ينبغي أن نسقط هواجسنا الإقليمية التاريخية، ولا تأثير حجم المصالح الاقتصادية الجديدة على ثوابتنا.

وقد قلت في مقال سابق ما نصه «لا يمكن تصور ولو مجرد التصور فقط، أن تتحول سلطنة عمان عن سياسة الحياد أبدا، لأن ذلك معناه، هدم ما بنته طوال كل العقود الماضية، فلنأخذ مثلًا بعدها الديموغرافي فهو مزيج من مكونها الديموغرافي للدولة التاريخية من جهة والإمبراطورية العمانية التي امتدت إقليميًا وعالميًا من جهة ثانية، ولما تسلّم المؤسس -طيب الله ثراه- الحكم في البلاد في 1970، كان أكبر الهواجس السياسية يكمن في تسكين الديموغرافيا المتعددة الثقافات والانتماءات في منظومة وطنية واحدة تحت شرعية سياسية واحدة، وداخل حدود سياسية معترف بها، ومتصالحة مع خارجها».

ولا تزال المبررات نفسها قائمة لسياسة الحياد، ويمكن أن نضيف إليها كذلك العوامل الجيوسياسية-والجيوستراتيجية لبلادنا، وأهميتها المعاصرة المتعاظمة، لذلك، فمهما كان حاجة تنميتنا المعاصرة للبراغماتية، فإنها ينبغي أن تظل حذرة، وألا تفرط بمنجز الحياد الذي يصفر أعداؤها، في وقت يسعى جوارها إليه، ولن يتمكن بسهولة، وهذا التصفير يخدم الآن بيئتها الاستثمارية الجديدة، وهذه البيئة يتوقف عليها نجاح «رؤية عمان 2040»، واستقرار مكونها الديموغرافي في إطار محيطه الإقليمي، ولدى بلادنا مجموعة خيارات استثمارية كبيرة من مناطق أخرى إذا ما ربط الأشقاء علاقتهم الاقتصادية الجديدة بالتخلي عن الحياد.

__________

* د. عبدالله باحجاج - كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي