أصُلها ثابتٌ وفرعُها في السماء

12 سبتمبر 2021
12 سبتمبر 2021

للكلمة طاقاتٌ جبّارةٌ لا يمكن إنكارها، طاقات نُطلقها عبر ألسنتنا فتروي قلوبًا، أو تصنع دروبًا، أو تحفر في الروح ندوبًا لا تشفى، طاقات نوزعها بيننا وصولًا لإنسان أجمل، وعطاء متصل، أو هدمًا لروح وثّابة، وعقول مبدعة.

بين مرسل الكلمة ومتلقيها عوالم من بناءٍ وهدمٍ، وفي تلك المساحات من التواصل اللفظي قدراتٌ يمكنها صنع جسور تفاعلية فاعلة.

وإن كان لها كل هذا الأثر بالأمس، فهي اليوم أشد وأقوى.

نعم هي كذلك ونحن نعيش واقعًا مليئًا بالمتناقضات، والضغوط النفسية، والتحديات الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية. هي كذلك ونحن نجوب عوالم واقعية وافتراضية مفتوحة دون قيود، ومعقدة بلا حدود، فما لنا ننأى عن طيب الأثر إلى انعدامه أو صنع نقيضه؟

لا تكلفنا الكلمة الكثير، بل لا تكلفنا شيئًا ونحن نلقيها بسخاء على مستحقيها من متعبين، وحيدين، بؤساء يتلمسون بصيص أمل، أو حزانى يرومون غيض فرح. لا تكلفنا شيئًا، ونحن نروي بها قلبًا مريضًا، أو نفسًا منهكةً، حتى وإن كانت لعابرٍ لا نعرفه، أو غريبٍ لا نألفه.

لا تحتاجُ الكلمة الطيبة أن تتلبّس رداءَ أغنية، أو وشاحَ قصيدةٍ ليبلغَ أثرُها مداه، ولا تحتاجُ منصات تشريفية، بل يكفيها أن تتهادى من فم إنسان بسيط سخي القلب لقلوب أخرى متعطشة لتعزيز أو دعم، متلهفة بعد طول ظمأ وتعب لرواء.

وقد تصنع تلك الكلمة عالما مغايرا لهؤلاء دون أن يدرك ملقوها عمق وعظم الأثر، وإن أدركوا فقد تقاسموا والمتعبين غيمها ورواءها، إذ يفرحُ الكريم بالعطاء أضعاف فرح من أعطى.

وإن كانت الكلمة الطيبة تذرع الروح وصولا لأجمل ما قد يؤتى منها فإنه يمكن للقسوة أن تعبر عبر كلمة فظة إلى قلوب تائهة، أو نفوس حيرى فتهوي بها إلى هاوية اكتئاب، أو حزن، وقد تغيرها من نفوس معطاءة توّاقة للخير إلى نفوس بائسة ميّالة للأسى والحزن. وشتّان بين واهب الفرح وقاتله، بين صانع الأمل ومغتاله.

وفي حال سلبية الكلمة التي تخترق النفس لتترك مخلفات لا تبرأ، و ضجةً لا تهدأ، يطلقها مرسلُها وقد لا يعلمُ ما قد تهدمُ من طاقات، أو تقوّض من إبداع، وما قد تقلق وتشوش من عقول.

يقول الشاعر القروي :

«لطّفْ كلامَك فالنفوسُ مريضةٌ

ومِن الكلامِ مُحنِّنٌ ومُجنِّنُ

كم هادئٍ بالعنف ثارَ، ونافرٍ

كالوحش روّضَهُ الكلامُ الليّنُ»

ومع حشود العالم الافتراضي الرحب الذي يضج بالكثير، لم يعد ذلك الحرف الباني أو الهادم منطوقًا وحسب، بل شمل المكتوب من حالات، أو بريد، أو تغريد. فلينظر أحدنا ما يكتب، ولمن، فلربما مر بها طفل صغير، أو مراهق متحفز، أو شيخ كبير. و لربما مر بها متعب يتلمّس فيها راحته، أو مفجوع يتحسس بها حنانا، أو حتى مخطئ أو مذنب يجد بها نصحا ومحبة، فيعود لإنسانيته حافظا لهذه الكلمة أثرا، ولصاحبها امتنانًا وشكرًا، ظاهرًا كان أو خفيًّا.

ولينظر أين يضع كلمته، فالعالم مليء بالمتضادات، مليء بالخيّرين الطيبين الأسخياء، كما أنه مليء بالمغرضين، المتكسبين، والمرضى.

ومع ما نملك من نعم الله علينا، لا ينبغي جحود نعمتي النطق و التعبير، وذلك بمشاركة ما نملك من طاقة إيجابية لتصل من نعرف من المحيطين بنا، فما أجملنا موزعي فرح ومحبة، زارعي أمل و عطاء، متذكرين قوله تعالى في كتابه الحكيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)