أسطورة الخراب

29 مايو 2022
29 مايو 2022

في مقال سابق تحت عنوان "لعنة العقد الثامن على إسرائيل" تناولتُ المقال الأول الذي نشره يهود باراك رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي السابق في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم الأربعاء 4 مايو 2022، الذي عبّر فيه عن مخاوفه تجاه مستقبل إسرائيل اعتمادًا على التاريخ، حيث إنّ دولتين يهوديتين سابقتين لم تكملا عقدهما الثامن. وحتى تكتمل الصورة وتتضح الرؤية للقارئ، لا بد أن نكمل ما كتبه يهود باراك في المقال الثاني الذي كتبه يوم الأحد 8 مايو 2022 في الصحيفة نفسها، بمناسبة الذكرى الـ74 لقيام دولته المزعومة؛ فهو في المقال الأول استدعى التاريخ لا ليخبر الشعب اليهودي عن نبوءة القضاء عليهم، وإنما ليدعوهم إلى توحيد الصف وتجاوز الخلافات - حسب الباحث محمود عبد الهادي - ويحذرهم من مغبة ما قد يحدث لهم في الفترة القادمة، إذا استمروا في ما هم عليه حاليًا من تباينات سياسية ودينية وفكرية حادة، وهو ما وقع فيه الشعب الفلسطيني والعربي منذ النكبة وحتى الآن. وما يؤسف له أنّ وسائل الإعلام العربية أهملت المقال الثاني ليهود باراك - وهو الأهم - واكتفت بنشر أخبار مقتضبة عنه، فيما ركزت على المقال الأول فقط، فظهرت الصورة ناقصة.

قضية زوال إسرائيل يتلقاها الناس عادةً إمّا بالإنكار، اعتمادًا على قوة إسرائيل العسكرية وتفوقها التكنولوجي وتسابق الدول العربية لإقامة علاقات طبيعية معها، وإمّا بالمبالغة في تصديق الزوال وكأنه سيحدث غدًا أو بعد غد، وتكون النتيجة عدم الأخذ بالأسباب والركون إلى الأحلام، وأود أن أشير هنا تعليقًا على مقالي السابق، إلى أني تلقيتُ ردودًا كثيرة، عبّرت معظمُها عن تفاؤل أصحابها بل وفرحهم بقرب زوال إسرائيل؛ وكان هناك مَن تحفظ ورأى أنّ هناك مبالغات كثيرة، لأنّ الواقع لا ينبئ بقرب هذا الزوال. وممّا قاله لي الكاتب والصحفي طارق الأشقر، "إنّ هذا النوع من المخاوف من جانب اليهود بقرب زوال دولتهم، يمكنه أن يكون عامل دفع إيجابيًا لهم، يساعدهم على مراجعة أخطائهم، والاستعداد لمواجهة التحديات لأجل مواصلة مسيرة تحقيق حلمهم"؛ فيما رأى الأكاديمي د. محمد المحروقي أنّ المقال مبهج ومستند على تحليلات للصهاينة أنفسهم، لكنه غير مستند على المنطق؛ فأقوالُ الصهاينة من التحليلات الدينية - حسب رأيه - هو ضمن الرغبة العارمة في تقوية الروح المقاتلة عند الصهاينة، ومن ناحية أخرى إلهاء أصحاب الحق بآمال غير واقعية؛ فيما رأى الأكاديمي د. طارق النعيمي أنه عندما نستدعي التاريخ الحديث والواقع، سنجد أنّ الوضع صعب جدًا، فلا يوجد حاليًا من هو مؤهلٌ لإزالتها، وأنّه بدون حلّ إسلامي من الصعب أن تزول؛ لكن في كلّ الأحوال - كما يرى الدكتور محمد الذهب - فإنّ مقالات مثل هذه جيدة لإظهار مدى القلق الذي يعيش فيه قادة الكيان لأنّ ما بني على باطل فهو باطل.

ما قاله هؤلاء الأصدقاء هو كلامٌ واقعي، يعيدني إلى مقال سابق لي نُشر في جريدة عُمان يوم الإثنين 31 يناير 2022، عن أهمية اتخاذ الأسباب وعدم الركون إلى الأحلام، قلتُ فيه إنه من الواقع يبدو أنّ زوال إسرائيل هو من الأمنيات بعيدة التحقق؛ فهي لن تزول اليوم أو غدًا أو هذا العام، لكنها حتمًا ستزول، وذلك يحتاج إلى الأخذ بالأسباب والعمل، وعدم الركون إلى الأوهام؛ فدينُنا يأمرنا أن نتّخذ الأسباب وأن نعدّ للعدو العدّة: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. ومن اتخاذ الأسباب أيضًا ليس الاهتمام بالقوة العسكرية فقط - رغم أنها الأساس - وإنّما في مسايرة العصر، بالاهتمام بالعلم والتكنولوجيا والصناعة؛ ولنا أن نتصور ماذا لو كان عند العرب تعليمٌ جيد، وتقدمٌ اقتصاديّ وصناعيّ، ومراكز أبحاث، وإنتاج غزير في المعرفة؟

وإذا كان الناس قد تلقوا نبوءة باراك بالاستبشار، فيجدر بنا أن نفهم جيدًا النقاط الواردة في مقاله الثاني، فهو يرى أنه "لا يمكن "للإرهاب" أن يقضي علينا، ولا الفلسطينيين ولا حزب الله ولا إيران حتى لو كانت تمتلك أسلحة نووية، لكن التاريخ يثبت أنّ أخطر عدو هو الانقسام الداخلي، وتنامي الكراهية بين اليهود أنفسهم، والتحريض والتعصب والطائفية التي تزداد سوءًا عامًا بعد عام، فالأممُ التي لم تستطع أن تتحد في لحظات الاختبار اختفت من منصة التاريخ". وتحدّث باراك عن تهديد حماس وحزب الله وإيران، وعن المشروع النووي الإيراني، داعيًا قادة "إسرائيل" إلى التصدي لها بقوة وعزم، مطالبًا برفع الحصانة عن زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار وغيره من قادة الحركة، (وهي دعوة لاغتيالهم ضمن نبرة عالية ارتفعت بشدة الآن) ومطالبًا باستكمال جدار الفصل العنصري وتشغيله وتجهيزه بوسائل الإنذار، ونشر قوات للرد على طوله". ومما قاله "يجب علينا أن نعمل لتحقيق أهدافنا من موقع القوة والثقة بالنفس، لا مكان لتخويف أنفسنا ومواطنينا". أما تهديد المشروع النووي الإيراني فقدّم باراك وجهة نظر جديدة تقلل من خطر المشروع على دولة "إسرائيل" بقوله: "إنّ التهديد الإيراني في هذه المرحلة وفي المستقبل المنظور لا يشكل تهديدًا وجوديًا على (إسرائيل)، وفي الواقع ينبع الخطر المباشر أكثر من احتمال أن يؤدي تقدّم إيران إلى دفع المزيد من اللاعبين في المنطقة إلى السعي للحصول على أسلحتهم الخاصة، وهذا تعقيد آخر على المدى الطويل". وإذا كان باراك لا يرى في المشروع النووي الإيراني تهديدًا لدولته، إلا أنّ عبارته الأخيرة عن احتمال أن يؤدي تقدّم إيران إلى دفع المزيد من اللاعبين في المنطقة للحصول على القوة، لا يمكن أن يمر مرور الكرام، فهو قولٌ تشم منه رائحة الخوف من التجربة الإيرانية في مدّ أذرعها لحركات المقاومة، وفي البال حزب الله وحماس والجهاد.

يقول الكاتب والباحث محمود عبد الهادي في مقال نشره في موقع "الجزيرة نت" بتاريخ 22مايو 2022، تعليقًا على تصريح يهود باراك "إنّ ما يعنينا أكثر في هذه الوقفة هو حديث باراك عن التهديد الداخلي الذي دفعه للتمهيد له في المقال الأول بالحديث عن لعنة العقد الثامن، حيث أوضح قصده بقوله "فترتا الدمار (التاريخيتان) لم تتم كتابتهما مسبقًا في السماء، لقد كانتا نتيجة أمراض طائفية شديدة وكراهية أخوية، إلى جانب التعصب الأعمى لمن احتكر معرفة إرادة الله وأراد تطبيقها الفعلي". وفسر باراك ذلك بقوله: "إنّ هناك تهديدًا واحدًا فقط لـ"إسرائيل" اليوم، والذي في ضوء تجربتنا التاريخية جوهره وأهميته قد يجعلانه تهديدًا وجوديًا، وهذا التهديد هو الأزمة الداخلية والانقسام الداخلي وتنامي الكراهية بين اليهود أنفسهم، تحريض وتعصب وانقسامات لا يمكن تركها تتفاقم من سنة إلى أخرى".

في مقال باراك لم يفته أن يشير إلى فيلم إسرائيلي أُنتِج أخيرًا وعُرض في دور السينما تحت اسم "أسطورة الخراب"، ليقول: إنّ الشخصيات التي ظهرت فيه من بطون كتب التراث اليهودية والنصوص ومضامينها تنطبق جدًا على واقع إسرائيل اليوم المشبعة أجواؤه بأثير الوقود.

هكذا نجد فكرة مقال يهود باراك اتضحت بعد المقال الثاني الذي لم يستدع فيه التاريخ، إذ ركز على الحاضر والمستقبل، فحذّر من مغبة ما قد يحدث لإسرائيل في الفترة القادمة إذا استمروا فيما هم عليه حاليًا، من تباينات سياسية ودينية وفكرية حادة. وممّا أعجبني في كلام محمود عبد الهادي أنه "كان الأولى بالشعب الفلسطيني وقادته أن يستفيدوا من حديث باراك أكثر من الشعب اليهودي، وأن يستلهموا منه الدروس والعبر، وأن يستشرفوا ملامح المرحلة القادمة لدولة "إسرائيل".. مرحلة تعزيز القوة والهيمنة الصهيونية في فلسطين والمنطقة، ليحققوا وعد الآباء والأجداد".

سأظلّ على إيماني أنّ زوال إسرائيل هو حقيقة حتمية يعلمها صنّاع القرار في الكيان الإسرائيلي قبل غيرهم. قد يطول الوقت أو يقصر، لكن ذلك لا يلغي حتمية الزوال، ولا يلغي أهمية اتخاذ الأسباب وترك الأمنيات جانبًا؛ فالزوالُ لن يتم هكذا من تلقاء نفسه دون كفاح وعمل ومقاومة، وإلا فإنّ هذا من التواكل، ولا بد أن أشير إلى أنّ يهود باراك قدّم درسًا بليغًا ليس لقادة كيانه فقط؛ وإنما للكل عندما تحدّث عن التهديد الداخلي في أيّ مجتمع عندما تنتشر فيه الأمراض الطائفية والكراهية والانقسامات؛ فقوة وتماسك الجبهة الداخلية في أيّ مكان هي ضمان الأمن والاستقرار. فهل من معتبر؟!