أسس التقدم والتمدن في عصر النهضة

23 مارس 2022
23 مارس 2022

يعتبر الأكاديمي الفلسطيني د. فهمي جدعان من الباحثين العرب، الذين اهتموا بقضية النهضة والمدنية في الوطن العربي، التي بدأت في الغرب بصورة ضخمة، وعندما تم الاحتكاك بأوروبا، أصبح الأمر جادًا للنظر والبحث، فيما ينبغي علينا أن نسير نفس الطريق، للخروج من واقع الجمود والتخلف العلمي والتكنولوجي، وننهض من هذا الواقع السلبي، ولا شك أن العديد من هؤلاء الباحثين الإصلاحيين، الذين ناقشوا الظروف التي تعيشها الأمة، اطلعوا بشكل أو بآخر على المشكلات القائمة في الواقع العربي، وهي بلا شك أزمات متراكمة لقرون عدة، وهذه تحتاج إلى نقد المعيقات التي ساهمت في هذا التردي والتراجع على كل المستويات.

ومما كتبه د. فهمي جدعان في كتابه المهم (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي)، أنه طرح الأفكار والآراء التي كتبها العديد من المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وقبل ذلك ناقش المشكلات التي تعيشها أمتنا، للانتشال من واقعها في بداية النهضة الحديثة، وهذا يحتاج إلى تطبيق والأفكار والنظّريات التي طرحها هؤلاء المفكرون على محك الواقع وظروفه آنذاك، وهذا لا يتأتى إلا من خلال النظر والبحث الواعي بكل تحولاته ومتغيراته، باعتبارهم عاشوا التحولات العلمية والتكنولوجية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما حصل في الغرب، ويقول د. فهمي جدعان في هذا الكتاب: «مفهوم التقدم الذي يدور حوله هذا البحث الذي أثبته تصريحا في صدره فيلزمني ضرورة بتقديم بعض التحديدات التي تساعد على الدخول إلى مجال المشكلة بالصورة التي تبدو عليها لدى المفكرين الذين تبيت في أعمالهم اهتمامات مباشرة بالمفهوم وتحقيقه. ومن المؤكد أنه ليس لدي أي مسوغ قوي يدفعني إلى أن أقدم منذ الآن تحديدًا لمفهوم التقدم لدى هؤلاء المفكرين، وخطوة كهذه تبدو لي ضربًا من البدء بالنهايات أحبذ اجتنابه تمامًا».

ولا شك أن قضية النهضة والمدنية الحديثة في واقعنا العربي، ربما واجهت الكثير من المشكلات السلبية، التي ساهمت في الإعاقة في داخل بعض هذه الدول، وهي الجمود والتقليد الذي وقف سدا في بعض الجوانب التي ستساهم في النهوض، وهذه السلبية نتيجة -كما أشرنا آنفًا- إلى تراكم الكثير من الأفكار غير الصحيحة تجاه التقدم، وكأن هذا التمدن أو النهوض العلمي والفكري، هو ضد الدين، وهذه للأسف من الإسهامات التي أعاقت بعض ما قدمه بعض المصلحين العرب عندما رأوا الفارق بيننا وبين أوروبا.

والأمر الآخر الذي أسهم في تراجع الأفكار، الاستعمار الغربي الذي اجتاح الوطن العربي، في ظل ظروف الجمود والتأخر والتخلف كما أشرنا، فجهود المصلحين العرب والمسلمين، تريد إصلاحًا منبعثًا من الهوية الوطنية وقيم الأمة ودينها، والاستعمار وأعوانه، يريد تقدما ينطلق من فكره ورؤيته التي حاول أن يطبقها تحت مقولات، إن تقدمنا جاء من خلال هذه المنهجيات والأسس العلمية، ومنها إقصاء القيم الدينية عن الفاعلية في حركة الحياة، لكن هذا لم يجد له ذلك القبول المطلوب، وهذا ما واجهه المصلحون البارزون في ذلك العصر، فجمال الدين الأفغاني والأمام محمد عبده، اللذان تصديا للكثير من الممارسات التي واجهتهما في مصر، من الاستعمار البريطاني، فطرد الأول مرغما عن مصر وسجن الثاني، ثم أجبر على مغادرة بلده، وهذه هي طبيعة الاستعمار وظلمه وقمعه، ومما قاله المستشرق والدبلوماسي الفرنسي «هانوتو» لكي نتبعهم فيما هم عليه، قال في مساجلته مع الإمام محمد عبده: إن تأخركم وجمودكم هو من دينكم، والمسيحية هي التي أنتجت هذا التقدم والمدنية، وهذا ما يخالف ما جرى في الغرب، وهو أيضا يتناقض مع كلام الكثير من الغربيين أنهم عندما أقصوا الكنيسة عن تدخلها، نهضت أوروبا.

فجاء رد الإمام محمد عبده على هذه القضية، كما طرحها هانوتو -كما ناقشناها في مقالات سابقة- ليس هذا صحيحًا، فقال في رده: من أصول الإسلام، وما أجله من أصل، قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من أساسها. هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه.

لا يجوز «لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوكراتك) أي سلطانا إلهيا، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة... فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. فمدنية الدولة هي من أسس التي بنت عليها الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، ولا يوجد تجانس أو تقابل بين ما للرؤية المسيحية من جوانب روحية، تميزت به هذه الديانة السماوية، وما انتهت إليه من قيام الحكم الإلهي الذي أدخل لهذا الدين، وهو جاء من النظرة الوثنية للدولة الرومانية في التقديس، لكونها احتضنت المسيحية بعد ظهورها، وحرفّت فيها، لكن الإسلام ارتبط بالمدنية التي لا يستمد الحاكم فيها سلطته من السماء، ولا يعتبر مقدسا فيما يمارسه من مهام وصلاحيات في الدولة.

ويقول الكاتب الأستاذ زكي الميلاد في كتابه (عصر النهضة: كيف انبثق ولماذا أخفق؟) فيرى أننا ابتعدنا كثيرًا عن طرح هذا الواقع المتأزم نهضويا والغوص في أعماقها بما يؤسس لرؤية جديدة لما أسهم في هذا التأزم، وأن دعاة الإصلاح الذين سبقونا، وتعرفوا على هذا الواقع الذي تعيشه البلدان العربية، بالمقارنة مع البلدان الغربية المتقدمة، كانوا للحق السباقين إلى البحث والنظر في هذه الأسباب، أكثر من الأجيال التالية التي تلت عصر دعاة الإصلاح، وأننا كما يقول الأستاذ الميلاد: تراجعنا كثيرًا جدًا عن فكر النهضويين ورؤيتهم الثاقبة لما آلت إليه الأمة، منذ النصف الثاني من القرن التاسع وما بعده، من حيث الرؤية للإصلاح والعقلية التي انتقلت إليه، ولهذا فان رجالات ذلك العصر كانوا أكثر وعيا ودراية في رؤيتهم للإصلاح، ولذلك نرى «كم أننا بعدنا ونبتعد عن عصر النهضة وقيمه ومبادئه المدنية والحضارية، وكم هي المسافات الطويلة التي باتت تفصلنا عنه، عصرًا وكأنه ليس في ذاكرتنا، ولا تربطه صلة بتاريخنا، ولا علاقة له بحاضرنا عصرًا وكأننا نجهله ولا نعرفه، فقد انقلبنا عليه، وخرجنا عن مساره، وانحرفنا عن بوصلته».

لكن د. فهمي جدعان، يرى أن مفهوم التقدم والنهضة له العديد من المدلولات الكثيرة والمتعددة، وهذا المفهوم مرتبط بالنهضة الغربية، ووليد عصرها الحديث، وما تبعه من تطورات علمية وفلسفية في المجالات التي حدثت بعد إقصاء الكنيسة عن مهامها التي كان لها الأثر في التقليص والإقصاء إلخ... بل أن مفهوم التقدم، مر بمرحل بمراحل عديدة: «فنجد له صورا متباينة في أقدم الثقافات التي نعرفها.

لكن الفرق بين المفهوم قديما وبينه حديثا يتمثل في أنه قد بدأ في الثقافات القديمة ذا طابع ميتافيزيقي، أو انفعالي بعكس الرجاء أو الأمل أو الرغبة لدى الإنسان في قدوم حالة أو مرحلة معينة مرغوب فيها هي أفضل من المرحلة أو المراحل السابقة. أما في العصور الحديثة (:) فقد جعلت من هذا المفهوم مفهوما واقعيا لا مجرد انعكاس لأمل أو رجاء مثالي أو خيالي، وادعت لنفسها القدرة على تسويغ المفهوم، بواقعية، مؤمنة بواقعيته على أرض التاريخ وفي حركة الإنسان وفعالياته». لكن الأمر لا يمثل إشكالية في المصطلحات، فالتقدم والنهضة والتطور وتجديد الواقع، لما هو أفضل يعتبر مشتركات إنسانية، يقبلها الجميع، المهم هذه المصطلحات، توضع بما يوائم الواقع وهويته الوطنية، ويستفيد من المنهجيات الحديثة التي أسهمت في النهضة العلمية والفكرية.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».