أسئلة الهوية

15 مارس 2022
15 مارس 2022

موضوع الهوية مطروق في أدبيات الفكر منذ العصر الحديث، ولكنه أصبح حاضرًا بإلحاح في الفكر المعاصر في سائر مناحيه: فهو لا يزال حاضرًا في الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي، ويطرح نفسه من خلال تساؤلات لا تنتهي. وسوف أحاول هنا الكشف باختصار عن أهم هذه التساؤلات ودلالاتها فيما يتعلق بوجودنا الإنساني الراهن في ظل عالم جديد لا يعبأ بالهويات، بل يسعى إلى تقويضها.

السؤال الأول البسيط: ما الهوية؟ وما قيمتها في حياتنا الإنسانية؟ لنتأمل أولًا معنى الهوية على مستوى الشخص أو الفرد: الهوية هنا تعني تطابق الفرد مع نفسه، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه استخدام «بطاقة الهوية» Identity card في الحياة اليومية، باعتبارها وسيلة للتحقق من أن بيانات الشخص المدونة في البطاقة تؤكد «تطابقها» مع الشخص نفسه حامل البطاقة. ومع ذلك، فإن هذا النوع من التطابق يظل تطابقًا برانيًّا أو ظاهريًّا، فنحن بذلك لا نتعرف على حقيقة الشخص، وإنما نتعرف على معلومات عامة عنه تتعلق بموطنه ونوعه ومحل ميلاده وما إلى ذلك، في حين أن الهوية الحقيقية لهذا الشخص تكمن في طبيعة شخصيته التي تجعله على ما هو عليه. هوية المرء هي شخصيته التي شكلها الموطن والنشأة وتاريخه الشخصي والاجتماعي، وكل ما تفاعل في تشكيل روحه وفكره الخاص. ولذلك، فإننا نستطيع أن نتحدث دائمًا عن هوية شخصية تميز الفرد، مثلما نستطيع أن نتحدث عن هوية أكثر عمومية تتمثل في تفاصيل يشترك فيها الفرد مع غيره في الموطن واللغة والتراث والتاريخ المشترك. الهوية إذن -باعتبارها الشخصية- تميز الفرد مثلما تميز الشعب، بل الأمة التي ينتمي إليها الفرد.

السؤال الثاني أكثر تعقيدًا، وهو: هل الهوية شيء ثابت يبقى بلا تغير؟ الإجابة بالنفي: فالهوية لا تشكلها لحظة معينة من تاريخ الفرد، وإنما تشكلها الأحداث التي تركت بصمات عميقة في نفسه وفكره ووجدانه، ولذلك يمكن القول إن الهوية ليست شيئًا ثابتًا يكمن في لحظة بعينها من حياة المرء، وإنما هي شيء متغير يتشكل على الدوام عبر تاريخ المرء، وهذا يصدق أيضًا على أحوال الشعوب والأمم، وهو أمر له دلالته البعيدة في فهم حقيقة الهويات: فالشعوب التي تختزل هويتها في لحظة ماضوية بعينها من تراثها الديني أو الفكري أو العلمي، تصبح عاجزة عن تحقيق هوية حقيقية لوجودها في عالم يتطور باستمرار، ببساطة لأنها تصبح غافلة عن أن الهوية ليست حالة ثابتة، وإنما هي حالة متغيرة تتشكل باستمرار من خلال ما كان وما هو كائن وما نريد أن نكون عليه.

السؤال الثالث: هل يمكن أن تصمد الهوية في مواجهة عالم متغير باستمرار، لا يبقى فيه شيء على حاله، وتتخطى فيه المعرفة والثقافة حدود موطنها من خلال وسائل الاتصال الفوري عبر شبكة المعلومات، ومن خلال ذرائع العولمة التي عملت على تحويل العالم إلى «قرية صغيرة» كما يُقَال؟ الواقع أن هذه الأدوات والذرائع قد خلقت عالمًا بديلًا يسعى إلى تجاوز الهويات الكائنة في سائر أساليب العيش والفهم والتفكير والثقافة. وعلى الرغم من أن هناك أهمية كبيرة يمكن أن يضيفها هذا العالم الجديد إلى البشر في مجال المعرفة والفهم وأساليب العيش، إلا أنه يظل عالمًا محفوفًا بالمخاطر، ومصدر الخطورة هنا أن هذا العالم الجديد توجهه وتتحكم فيه رأسمالية جديدة جشعة، تهيمن عليها دول عظمى تؤمن بضرورة الحفاظ على هويتها، ولكنها لا تتورع عن سحق هويات الأمم الضعيفة التي لا تملك سوى أن تكون في دور المتلقي لا دور الفاعل. وربما يفسر هذا لنا السبب في أن الأمم الضعيفة التي لا تبدع العلم والمعرفة والفن، ولا تسهم في صنع التكنولوجيا وذرائع العولمة بالتالي لا تملك التعبير عن حضورها وشخصيتها من خلال ذلك كله هي نفسها الأمم التي تشيع فيها ظواهر العنف والتطرف الديني: ذلك أن بعض أفراد وجماعات هذه الدول الذين يشعرون بالانسحاق في مواجهة ما يتهدد وجودهم، ولا يجدون أنفسهم قادرين على صنع شيء حقيقي في مواجهته، يلجأون غالبًا إلى حالة من التقوقع أو النكوص الحضاري (إذا استخدمنا لغة فيلسوف التاريخ توينبي)، فتراهم في مواجهة الشعور بالعراء يلتحفون بالعرق والملة والدين. ويا ليتهم يلتحفون بروح الدين الذي شجع على نشأة المعارف والعلوم والآداب، وإنما يلجأون إلى لحظة ماضوية تتشبث بظاهر الدين، وكأنها طوطم يستعينون به على نجاتهم في مواجهة عالم عدائي بالنسبة إليهم.

المثال الساطع الذي يمكن أن يلخص لنا هذا الأمر هو أن الدول المتقدمة التي تُصدِّر أدوات وذرائع تسحق الهويات، هي الدول التي تتمسك شعوبها بثقافتها ولغتها وبحضور شخصيتها في إبداعها على سائر الأصعدة، في حين أن شعوب الدول الضعيفة في مواجهة ما يهدد وجودها وهويتها قد تلجأ إلى الانسحاق في هويات أخرى أو إلى معاداتها، وكلتا الحالتين هما استجابتان نكوصيتان لا تصنعان هوية ولا نهضة حقيقية.