أزمة البوسنة القادمة

17 يناير 2022
17 يناير 2022

إن التهديد الروسي الذي تواجهه أوكرانيا ليس الأزمة الوحيدة التي يحتمل أن تشهدها أوروبا الشرقية هذا العام. إذ تتجه البوسنة والهرسك نحو فترة من الاضطرابات السياسية العميقة، وتسعى إلى إجراء انتخابات رئيسية في أكتوبر.

ولم تكن البوسنة يوما ما مكانًا خاليا من التعقيدات. إذ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وَلَّدت أزمة تلو الأخرى، وأسهمت في النهاية في اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ثم، مع تفكك يوغوسلافيا في أواخر القرن العشرين، كانت مسرحاً لحرب وحشية بين مسلمي البوسنة (البشناق) والصرب والكروات. وأنهت اتفاقيات دايتون الصراع في عام 1995، بعد مقتل أكثر من 100 ألف شخص- بما في ذلك في مذبحة الإبادة الجماعية التي حدثت في (سريبرينيتشا) في يوليو - وبعد طرد ملايين آخرين من منازلهم. وتمثلت الخطوة التالية في بناء دولة من تحت الأنقاض تؤدي وظائفها. ولكن جيوش المجموعات الثلاث كانت الهياكل الوحيدة المتبقية التي كانت تؤدي وظائفها، وكان العديد من القادة المحليين يرون السلام على أنه مجرد استمرارللحرب بوسائل أخرى. وسرعان ما تبددت الآمال في ظهور جيل جديد من القادة غير الوطنيين من بين الرماد. وعلى الرغم من أن المساعدات الدولية غيرت البلاد، وغطت معظم آثار الحرب، إلا أن سياساتها لا تزال معيبة إلى حد كبير، بسبب استمرار الأحزاب القومية السياسية في الهيمنة. لذلك، أصبح احتمال انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي يبدو بعيد المنال أكثر فأكثر. ولاحظت المفوضية الأوروبية في تقييمها السنوي للبوسنة الذي أجرته عام 2021، أن "القادة السياسيين استمروا في الانخراط في اللهجة الخطابية التي تبث الفرقة والخلافات السياسية غير البناءة". وبالكاد سُجل أي تقدم في الاستجابة للمعايير الأربعة عشر لبدء محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، و"خلال فترة الوباء، استمرت الآثار السلبية للفساد المستشري وعلامات الاستحواذ السياسي في الظهور بقوة". ولم ينجح المسؤولون القضائيون ولا القادة السياسيون في معالجة هذه المشاكل. وفضلا عن ذلك، وبسبب "ظاهرة الفساد المعممَة" والقطاع العام "غير الفعال والكبير بصورة مبالغ فيها"، يظل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البوسنة مجرد ثلث متوسط نظيره في الاتحاد الأوروبي. فقد غادر ما يقدر بنصف مليون شخص البلاد خلال السنوات القليلة الماضية، مما أدى إلى استنزاف المواهب الشابة الثمينة. يجب أن يكون أداء البوسنة أفضل بكثير مما كان عليه بعد مرور 26 عامًا على الحرب.

وبدلا من ذلك، تلوح في الأفق أزمة عميقة أخرى. إذ يقرع زعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، طبول السياسة القومية ويدفع جمهورية صربسكا (إحدى منطقتي البلاد اللتين تتمتعان في جزء كبير منهما بالحكم الذاتي) لتأكيد استقلال أكبر في مواجهة الحكومة المركزية. وتتصاعد حدة الخطاب من جميع الأطراف، مما أدى إلى دعوات أطلقها كريستيان شميدت، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك، لتدخل دولي آخر.

ولكن هذا حل خاطئ لما تعانيه البوسنة. إن أحد العوامل في الأزمة السياسية الحالية هو القانون الجديد المثير للجدل الذي يحظر إنكار الإبادة الجماعية، والذي فرضه في صيف العام الماضي الممثل الدولي السامي المنتهية ولايته قبل أيام قليلة من تركه لمنصبه. وردَّ صرب البوسنة على الفور بالانسحاب من وظائف الدولة المشتركة، وأصدر دوديك منذ ذلك الحين إنذارات قوية. ويدعو "دوديك" بين الحين والآخر جمهورية "صربسكا" إلى الانفصال التام عن البوسنة. ويتصدر هذا الخطاب عناوين الصحف، لكن لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. فعلى أي حال، دعت كل من صربيا وروسيا بأسلوب واضح إلى احترام وحدة أراضي البوسنة. ولكن الأزمة عمقت الانقسامات القومية في البوسنة وسلطت الضوء على الارتباك في جوهر الدور الذي يفترض أن يقوم به المجتمع الدولي في البلاد. فهل من المفترض أن تخضع البوسنة لحماية المجتمع الدولي الذي يبتكر القرارات ويفرضها وينفذها متى شاء؟ أم أنها دولة ذات سيادة و ينبغي أن تحل مشاكلها بنفسها؟ وبمعنى من المعاني، تَحول مكتب الممثل الأعلى الدولي- وهو المنصب الذي كنت أول من شغله بعد الحرب- من كونه جزءًا من الحل إلى جزء من المشكلة. فبالنسبة للبشناق، وجود المكتب يعني الاستمرار في المطالبة باتخاذ إجراءات دولية ضد الصرب البوسنيين المترددين أو الكروات البوسنيين، بينما بالنسبة للمجموعتين الأخيرتين، يثير المكتب مخاوف بشأن اتخاذ مثل هذا الإجراء بالفعل. والنتيجة هي الشلل وانعدام الثقة، لأن أيا من الجانبين لا يرى ضرورة الجلوس ومناقشة التسويات الصعبة اللازمة حتى تؤدي البلاد وظائفها. إن أحد العوامل الرئيسية في الأزمة الحالية هو الانتخابات العامة المقررة في البوسنة في وقت لاحق من هذا العام.

ففي الانتخابات المحلية لعام 2020، حققت أحزاب المعارضة مكاسب مدهشة ضد القوى القومية المهيمنة في سراييفو وفي مركز صرب البوسنة، "بانيا لوكا". وخوفًا من تكبد المزيد من الخسائر، يتوق القادة القوميون من جميع الأطراف إلى خلق أزمة جديدة لتخويف قواعدها وتعبئتها. ومن الأهمية بمكان إجراء الانتخابات العامة كما هو مخطط لها. ولكن بعد ذلك، يجب أن يعيد المجتمع الدولي النظر في مقاربته للبوسنة. وإذا لم يكن مستعدا لتولي سلطات الحماية الكاملة، عليه أن يتراجع ويترك قادة البلاد على مضض لمعالجة الأمور بأنفسهم. وستكون تلك العملية بطيئة وصعبة؛ ولكن ينبغي أن يحدث ذلك عاجلاً أم آجلاً، إذا كان للبوسنة أي فرصة للعمل بصفتها دولة ذات سيادة. وحتى يتراجع المجتمع الدولي، يجب أن يهيئ شرطين صعبين وهما: وجوب الحفاظ على وحدة أراضي البوسنة؛ وإبقاء البعثة العسكرية الصغيرة للاتحاد الأوروبي في البلاد، لأنها تتمتع بالقدرة على استدعاء تعزيزات سريعة من الناتو إذا لزم الأمر. ولا شك أن هذا العام سيكون صاخباً على المستوى السياسي بالنسبة للبوسنة. إذ سيرغب القوميون الصرب أن ينقل البوسنيون المزيد من السلطة إليهم، وقد ينخرط دوديك- على الرغم من العقوبات الأمريكية الجديدة ضده- في سياسة حافة الهاوية لحشد مؤيديه. وفي الوقت نفسه، سيطالب القوميون البوسنيون بمركزية المزيد من السلطة في سراييفو، وسيطلبون مساعدة المجتمع الدولي لفرض ذلك. وسيظل القوميون، الكروات البوسنيون غير راضيين (ليس بصورة غير معقولة) بقانون انتخابي يحرمهم فعليًا من ممثلين في أعلى هيئة لصنع القرار في البلاد. ومن المؤكد أن هذه الأزمة السياسية ليست الأولى في البوسنة ولن تكون الأخيرة. وليست الدعوات إلى تدخل دولي واسع آخر بالأمر المفاجئ، لكنها غير حكيمة. إذ لا ينبغي معاملة البوسنة على أساس أنها دولة تحت الحماية. ورغم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يعربان عن استعدادهما ورغبتهما في المساعدة، يجب أن يتحمل البوسنيون في نهاية المطاف مسؤولية البوسنة.

• كارل بيلت سياسي ودبلوماسي سويدي كان رئيس وزراء السويد من عام 1991 إلى عام 1994.

** خدمة بروجيكت سنديكيت