أحداث ينبغي التوقف أمامها والاستفادة منها!!

25 أكتوبر 2021
25 أكتوبر 2021

د. عبدالحميد الموافي

في حياة الأمم والشعوب، وكذلك بعض الأفراد، أحداث وتطورات شديدة الأهمية والتأثير في حاضر وحياة من يتعرض لها، أو يمر بها ويعيشها من الأمم والشعوب وكذلك الأفراد، وبالقدر الذي تكون فيه هذه الأحداث والتطورات كبيرة ومؤثرة، بقدر ما تكون متشعبة ومتداخلة ومرتبطة مع كثير من الأحداث التي سبقتها، أو مهدت، ليس فقط لأن الأحداث الكبري لا تقبل أن تكون أحداثًا أو تطورات فجائية، أو تخضع للمصادفات، وإن كانت بعض المصادفات يمكن أن تؤثر في سيرها أو في حركتها في مرحلة أو أخرى لظرف أو آخر، ولكن أيضًا لأن الأحداث الكبرى هي في معظمها نتيجة لتراكمات وتفاعلات واستعدادات واعية ومكثفة سبقتها ومهدت، أو تمهد لها، وهو ما يفرض في الواقع ضرورة النظر إليها والتوقف أمامها في إطار واسع يستوعب بالضرورة الإرهاصات والاستعدادات التي سبقت وتسبق مثل تلك الأحداث، حتى يمكن فهم أبعادها ومن ثم الاستفادة منها على نحو يفيد الشعوب المعنية، في حاضرها ومستقبلها أيضا، وبما يتوافق مع رؤية هذه الشعوب، وخططها لبناء حياتها في الحاضر والمستقبل.

وإذا كان كل حدث من هذه النوعية من الأحداث، يظل له طابعه وإيقاعه وإطاره الخاص به، بغض النظر عن قوة وضخامة الحدث، ومدى ومستوى تأثيراته، وقدرته على الاستمرار أيضا في طرح نتائجه وإمكانية الاستفادة منها، إلا أنها جميعها تقريبا تلتقي عند نقطة أنها محصلة وخلاصة ونتيجة لتفاعلات واستعدادات وخطط وتحركات علنية وغير علنية سبقتها ومهدت إليها، وساهمت في التمهيد لها لتتم في وقت محدد، ومن هذا المنظور فإنه يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى حرب أكتوبر عام 1973، وما ترتب عليها من نتائج، ولا تزال تطرحه من دروس تتجدد الإشارة إليها والحاجة للتوقف أمامها مع حلول ذكراها في كل عام، وهو أمر لا ينحصر في المستوى أو النطاق المصري فقط.

ومن ثم فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: بالنسبة لحرب السادس من أكتوبر عام 1973، والتي لا تزال بعض جوانبها، فضلًا عن دروسها المستفادة، مجالًا للنقاش والتحليل على مستويات مختلفة، وعلى نطاق واسع، فإنها بالرغم من البعد الاستراتيجي لها، إعدادًا وتحضيرًا وأداء على أرض الواقع، إلا أنها في النهاية كانت تمثل قطاعًا واحدًا من قطاعات الأداء والعمل المصري، صحيح أن القطاعات والإمكانات المصرية جميعها تقريبا، كانت مسخرة، بشكل أو بآخر، من أجل إنجاحها وتحقيق الأهداف المحددة لها، ولكن الصحيح في الوقت ذاته، أنه كانت هناك قطاعات أخرى مهمة وحيوية تعمل وتسعى الدولة من خلالها إلى الحفاظ على مصالحها الوطنية، على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وبما لا يتعارض مع ضرورة تناغم أداء كل القطاعات، بما فيها الاستعداد لحرب أكتوبر، وإدارة معاركها، التي بدأت ظهر السادس من أكتوبر، أي في وضح النهار، برغم كل العيون الإسرائيلية والأمريكية وغيرها الفضائية والرادارية والبشرية والتجسسية المفتوحة بكامل اتساعها أيضا.

وبالنظر إلى أن حرب أكتوبر عام 1973 لم تكن مجرد حدث، ولم تكن مصادفة، ولكنها كانت تخطيطا بكل ما يعنيه التخطيط من معانٍ وأبعاد ومستويات معروفة، فإنها كانت أيضا نتيجة ومحصلة لجهود كثيرة، متضافرة ومتناغمة ومحتشدة في اتجاهات محددة ومدروسة من أجل استعادة الأرض وغسل آثار الاحتلال الإسرائيلي الذي حدث عام 1967.

نعم إنها كانت حرب جيل مصري، صدمته أحداث يونيو عام 1967، وآثر أن ينتقم لنفسه وللعرب من خلفه، وأن يستعيد كامل ثقته في ذاته، ويؤكد قدراته على الفعل والإنجاز واستيعاب التطورات التقنية في مجالات التسليح وتخطيط المعارك، وتأمين أسباب الانتصار مهما كلّفه ذلك من جهد وطاقات في مختلف المجالات.

نعم، كنا جميعنا، ضباطًا وجنودًا وضباطًا كبارًا وقادة مستعدين بالفعل وفي كل لحظة للتضحية بأرواحنا من أجل الوطن، ولاء وفداء وتصميما على إنهاء الاحتلال للأراضي المصرية مهما كلّف الثمن، والمؤكد أن هذه العزيمة وهذا التصميم على التضحية والفداء، الذي شمل كل أبناء مصر دون استثناء، كان من أهم أسباب النصر، خاصة وأنه توفرت القيادات القادرة على إدارة المعارك وتحقيق التنسيق والتكامل بين مختلف القدرات القتالية المتوفرة لدينا، بدءًا من جنود الصاعقة والمظلات الذين كانوا يعملون خلف خطوط العدو من قبل أن تبدأ ساعة الصفر، وحتى وحدات القتال الرئيسية، من مشاة ومشاة ميكانيكية ومدرعات ومدفعية، وقوات جوية وبحرية ووحدات الهندسة والدفاع الجوي والاستطلاع وغيرها من الوحدات والأجهزة التي عملت جميعها في إطار منظومة متماسكة ومتكاملة خلف الرئيس الراحل أنور السادات ورئيس الأركان الفريق سعد الشاذلي ووزير الدفاع الفريق أول أحمد إسماعيل ورئيس العمليات اللواء عبدالغني الجمسي وكبار القادة الآخرين من قادة القوات المسلحة ومنهم اللواء حسني مبارك قائد الطيران المصري وصاحب الضربة الجوية التي مهدت لبدء العمليات تحت غطاء القصف المدفعي الذي لم يسبق له مثيل.

وإذا كنا في غير حاجة للحديث عن المانع المائي، ممثلًا في قناة السويس، وخطوط النابالم التي وضعتها إسرائيل على سطح المياه لتشعلها عند أول تحرك مصري لمحاولة عبور القناة، والساتر الترابي بارتفاع خمسة أمتار والذي كان عموديا على الشاطئ الشرقي لقناة السويس، ومن خلفه النقاط الحصينة لخط بارليف الإسرائيلي، فإنه من المهم التوقف أمام صراخ جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل للسفير الأمريكي في إسرائيل وللرئيس الأمريكي نيكسون واستنجادها بواشنطن وإصدارها الأوامر للطائرات القاذفة الإسرائيلية المحملة بقنابل نووية للاستعداد لضرب مصر، وهو ما حرّك كلًا من موسكو وواشنطن لوقف هذه الحماقة الإسرائيلية، وتعهدت واشنطن بتسيير جسر جوي كبير ومستمر إلى إسرائيل، وكانت الدبابات الأمريكية تنزل بأطقمها الأمريكية على شاطئ سيناء وما تم تدميره منها كانت عداداته قد سجلت ما بين 70 وأقل من مائة كيلومتر فقط، ولذا قال السادات في خطابه في نهاية الحرب: (إننا لا نستطيع محاربة أمريكا» على أي حال فإن حرب أكتوبر كانت، ولا تزال حدثا بالغ الأهمية في مصر، وعلى المستويات العربية والإقليمية والدولية، بنتائجها التي أحدثتها على مختلف المستويات، وبما صاحبها من تكتيكات في العمليات العسكرية وعبور أصعب مانع مائي في تاريخ الحروب واقتحام خط بارليف والسيطرة على معظم نقاطه الحصينة خلال عدة ساعات، بعد أن ردد الكثير من الجنرالات وخبراء الحرب الأجانب، على امتداد سنوات، مقولة إنه لا يمكن السيطرة على خط بارليف أو اقتحامه إلا باستخدام سلاح ذري على حد زعمهم، وذلك إنجاز بالغ الأهمية في حاضر ومستقبل العسكرية المصرية والعربية أيضا.

ثانيا: إنه إذا كانت حرب أكتوبر محصلة لما سبقها من استعدادات وجهود في التخطيط والتدريب والتسليح وتهيئة أفضل مناخ ممكن للعلاقات بين مصر وأشقائها العرب وأصدقائها على امتداد العالم، وهي نجاح مصري عسكري تكتيكي واستراتيجي كذلك، بغض النظر عن قيام الجنرال شارون بالدفع ببعض الدبابات إلى الشاطئ الغربي لقناة السويس يوم 17 أكتوبر، وذلك بالاستعانة بصور الأقمار الاصطناعية الأمريكية التي كانت تتابع كل العمليات على الجبهتين المصرية والسورية، وكانت تمد إسرائيل بكل المعلومات عن التحركات العسكرية المصرية وتوزيع القوات على الجبهة وتحديد نقاط الضعف أو نقاط التماس بين الجيوش في محاولة للنفاد منها إلى الشاطئ الغربي للقناة، وذلك بهدف أمريكي في المقام الأول وإسرائيلي في المقام الثاني من أجل الحد من قيمة ما حققته العسكرية المصرية وإيجاد وضع يمكن استخدامه في المفاوضات التالية لوقف العمليات.

وفي هذا الإطار أيضا ماطلت إسرائيل، وبدعم أمريكي، في الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار على مدى 72 ساعة، من يوم 21 إلى يوم 24 أكتوبر حتى تقوم بتعديل وضع قواتها في منطقة الدفرسوار، برغم أن القوات الإسرائيلية كانت مطوقة بالكامل بقوات مصرية مستعدة لقصف الثغرة وتصفيتها عند تلقي الأوامر بذلك، بعد حشد السلاح والصواريخ أرض / أرض اللازمة لضرب الثغرة، إذا صدرت الأوامر من القيادة، وفي هذا الإطار أيضا حاولت القوات الإسرائيلية عدة مرات اقتحام مدينة السويس الباسلة ولكن صدتها القوات المسلحة من الجيش الثالث وقوات المقاومة الشعبية التي حالت دون دخولها السويس ولم تفلح محاولة إسرائيل نشر صورة لجولدا مائير أمام دبابة إسرائيلية على غلاف مجلة النيوزويك الأمريكية ادعت فيها المجلة أنها من داخل مدينة السويس وقد ثبت للجميع أنها صورة مفبركة في إطار الدعاية الإسرائيلية في ذلك الوقت، وفي كل الأحوال فإن حرب أكتوبر نجحت بالفعل في وضع حد للعنجهية الإسرائيلية ولمزاعم التفوق العسكري الإسرائيلي، وأعادت الثقة والاعتبار للمقاتل المصري والعربي بعد أن أثبتت القوات المصرية والقوات السورية قدراتهما في معارك أكتوبر 1973، التي لا يمكن للعسكرية الإسرائيلية نسيانها أو التقليل من أثرها وكان تقرير لجنة إجرانات حول «التقصير الإسرائيلي» خلال حرب أكتوبر بالغ الدلالة في هذا المجال.

وفي المقابل ما زالت تكتيكات عبور القناة واختراق الحاجز الترابي واقتحام نقاط خط بارليف، تكتيكات معارك الدبابات، ومعارك الطيران، وحتى خطط إعداد الدولة المصرية للحرب، تتم دراستها في كثير من المعاهد العسكرية العربية والأجنبية، خاصة أنها أثبتت نجاحًا كبيرًا وفعالية أثرت بشدة على القوات الإسرائيلية وعلى معنوياتها في ميادين القتال وخارجها.

ثالثا: إنه إذا كانت قد مر على حرب أكتوبر المجيدة ثمانية وأربعون عاما، وإذا كانت تغيرات وأحداث وتطورات كثيرة جرت خلال السنوات الماضية، عربيًا وإقليميا ودوليًا، من أبرزها حالات الاستنزاف المتعمد للقوة العربية خلال العقد الأخير، خاصة في العراق وسوريا واليمن وليبيا ودول أخرى، والمواجهات العسكرية والحروب ضد الجماعات الإرهابية في أكثر من مكان في المنطقة، فضلًا عن التغيرات السياسية التي جرت، سواء على صعيد عدد من الدول العربية، أو على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل يمكن استعادة «روح أكتوبر»، ونقول «روح أكتوبر»، لأن معطيات كثيرة تغيرت عمليا، ولأن استعادة التضامن القوي بين الأشقاء قبيل وخلال حرب أكتوبر يصعب الآن تحقيقه بنفس القوة والعمق، لأسباب واعتبارات عديدة ومعروفة.

ولذا فإن المأمول هو استعادة «روح أكتوبر» على الأقل، ولو بالحد الأدنى من التفاهم والتوافق والتضامن بين الأشقاء، واستعادة الثقة بين الدول العربية، والالتقاء على خطوط أساسية يتم الالتزام بها في سياسات الدول العربية بشكل أو بآخر.

وإذا كانت إسرائيل قد خرجت من جدران «الجيتو»، وذلك بفعل «اتفاقيات إبراهام» التي عمل الرئيس الأمريكي السابق ترامب لإبرامها بين إسرائيل وعدد من الدول العربية قبيل رحيله «غير المأسوف عليه»، فإن محاولة إسرائيل القفز على القضية الفلسطينية، والتلاعب بعناصرها والمماطلة العلنية ورفض الدخول في مفاوضات سلام مع الفلسطينيين ومحاولة سد الطريق أمام حل الدولتين، لم تنجح جميعها في تحقيق أهدافها، وكانت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية في دورتها العادية الحالية بالغة الدلالة والوضوح في الحفاظ على القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وخلاص من الاستعمار الإسرائيلي.

وفي كل الأحوال فإن الدول العربية مطالبة اليوم بالعمل الجاد والمخلص من أجل التوصل إلى قواسم مشتركة تعزز العمل المشترك والحفاظ على القضية الفلسطينية واستعادة «روح أكتوبر» في العمل والتضامن بين الأشقاء، من أجل الحفاظ على الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى المصالح القومية العربية ومنع إسرائيل من تفتيت اللحمة العربية وحتى يتمكن الأشقاء الفلسطينيون من الحصول على حقوقهم المشروعة، بما في ذلك إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية في إطار حل الدولتين.

وإذا كانت حرب أكتوبر قد أكدت أنه يمكن للعرب عمل الكثير على المستوى العسكري، فإن العرب قادرون الآن على عمل الكثير سياسيا واقتصاديا ولصالح الفلسطينيين وصالحهم جميعا، إذا خلصت النوايا والتقى الجميع على ما يحفظ المصالح المشتركة والمتبادلة، أما غير ذلك فإنه يؤدي إلى تعريض مصالح كل الدول العربية والأمن القومي العربي إلى مخاطر حقيقية وشديدة التأثير عليه في الحاضر والمستقبل ولا يستفيد من ذلك سوى إسرائيل والقوى الإقليمية الأخرى التي نشطت وتنشط في العمل من أجل مصالحها ولو على حساب المصالح العربية، فهل نستطيع؟ نعم هناك فرصة.