أباطيل الكتابة: تأثير الهالة
للكتابة عالم أثيري يخلقه ويُجمِّله التلقي، كما جمّلته تداعيات استقبال جمهور القرّاء الاحتفائية بالكلمة مكتوبة كأنها تلك المنحوتة في المعابد التاريخية والحصون العريقة، وتأثيرها فكريا وجماليا على وعي الفرد والمجتمع، فلا غرو أن يسعى الجميع لود هذه الحرفة الخالدة والمهارة الإبداعية الباهرة، ولكن العجب كله في التغاضي عن متاعبها ومشاقها وإرهاصاتها الأولى المنهكة وصولا لفردوسها المشتهى ولذتها المبتغاة، ومع كل تلك الإغراءات التي تحيط بالكتابة منذ تمثلها في افتراض التفرد في محترفيها، والجودة في حرفتهم بعد طول تنقيح ودوام تصحيح إلا أنها حرفة لم تنجُ من الأوهام، ولم تسلم من الأباطيل.
ومن أباطيل الكتابة ما قد يقع به البعض من وهم «تأثير الهالة» المصطلح الذي استخدمه أول مرة عالم النفس الأمريكي إدوارد لي ثورندايك عام 2020 في مقالة منشورة له بعنوان «خطأ متكرر في التقييمات النفسية» في إشارة منه إلى الشخص الذي يعتقد أنه يملك هالة ما تمنحه التأثير على تقييم الآخرين له، وقد انسحب هذا المصطلح بعدها على كثير من المجالات بدءا من تسويق الإنسان لنفسه ومهاراته مرورا بعوالم التسويق التجاري والعمل المالي والاقتصادي للشركات الكبرى وقدرتها على الجذب والتأثير في سعيها لخلق هذه الهالة وإن كانت وهمية، ثم عالم الإدارة وهو ما تحدث عنه «فيل روزنتسفيغ» في كتابه «تأثير الهالة، وثمانية أوهام أخرى تُضلل المديرين في عالم الأعمال» عام 2007م معتمدا فيه نموذج شركة حققت أرباحا هائلة لمبيعات سنوية عبر خلق وهم أولي في التسويق، فنالت استحسان وإعجاب الجميع، وهذه الشركة ذاتها بنفس رؤسائها التنفيذيين ومديريها وموظفيها خسرت في عام لاحق خسارة فادحة؛ فتحول رأي الجمهور من منتهى الإعجاب إلى التطرف في النقد الحاد واسمين مديريها بالمتغطرسين، وموظفيها بالكسالى رغم أن أداء الشركة لم يتغير، وما تغير فقط هو عجز الشركة عن الاستمرار في خلق تأثير الهالة التي تستبقيها في دائرة الرضى والقبول والتعظيم.
، وهو ما لا يمكن أن يعوِّل عليه كاتب حقيقي يعي معادلة الكتابة والتلقي الصعبة، فوقعوا في شرك اعتمادهم قوة التأثير وحسبْ هبوطا للخسارة بعد تهاوي وضعف تأثير هالتهم الافتراضية، فلم تعد العودة لحرفتهم الأولى ممكنة، كما أن تقبلهم الهزيمة بعد أضواء البرج العاجي بات أمرا صعبا، وهنا أمامهم مرّان يتجرعها الكاتب إما الانكفاء على الذات واجترار ما مضى من مجد التأثير حتى الانطفاء الواقعي، وإما لوم الآخر (متمثلا في الأصدقاء الخونة، والمؤسسات الفاسدة) على ما اعتقدوا بأنه تآمر على موهبتهم الفذة وحرفتهم الأخاذة في الكتابة، وفي الواقع لم يتجاوز الأمر انطفاء هالة التأثير التي كانت تمنحهم ألوان المجد وأضواء الشهرة، حريٌّ بهؤلاء الكتّاب الذين انطلقوا من حرفة حقيقية وموهبة فذة حينها العودة إلى مناجم صنعتهم، وفتيل إبداعهم بدلا من استنزاف طاقاتهم في توسل الشهرة ومحاربة طواحين الهواء أفرادا ومؤسسات.
بعيدا عن هؤلاء يتكاثر آخرون كنباتات متسلقة ممن تعلقوا بوهم تأثير الهالة حينما انبهروا بمجد الكتابة لدى غيرهم فتبعوه ظنا منهم بأنها متاحة للجميع، وضللتهم هالة التأثير الوهمية المصنوعة ممن حولهم من المنتفعين ماديا وعاطفيا بتعظيم ما ليس موجودا أصلا من حرفة الكتابة، ومع هؤلاء تُفَرِّخ دورُ النشر كثيرا من الإصدارات التي لم يكلف أصحابُها أنفسَهم أو جيوبَهم عناءَ أبسط أدوات التمحيص والمراجعة لضمان السلامة اللغوية بعيدا عن تحري جودة الإبداع وتميزه لندرته إن كان موجودا أصلا، والمعوِّل هو مضاعفة وهم تأثير الهالة ليُكتفى حينها بالرأي الجمعي المصنوع بعيدا عن أي قراءة حقيقية للإصدار أو حتى مجموع الإصدارات، فالصانع ليس صانعا حقيقيا، والموزع ليس معنيا بتحقق الصنعة، إنما تحمل الأول الرغبة في المجد وهالته، وتحمل الثاني مجاملات وحسابات لفوائد مادية مؤقتة لا شأن لها بالإبداع، ثم تصغر الفقّاعة ليضمحل الوهم ويعود كل إلى ملعبه مع أباطيله التي روّج لها.
وبين هؤلاء وأولئك يأتي المبدعون الكسالى، الذين لم يخلصوا لموهبتهم الربانية، وحرفتهم المتفردة، وما كان زاد الكتابة إلا مضاعفة القراءة وتنويعها، وممارسة الكتابة بكل السبل حتى في حال عدم الرغبة في النشر شحذا للإبداع ودعما للموهبة كي لا تتضاءل فيركن أصحابها إلى الصمت الذي هو موت التحقق، ومقبرة الإبداع في حرفة بضاعتها الكلام.
لأن الكتابة شأن عظيم أحاطت بها أباطيل كثيرة، كانت هالة التأثير أول الأباطيل وستأتي مقالات قادمة بأباطيل أُخَر ليست أقل أثرا ولا أوهى تأثيرا.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
