آداب الفَهم والحوار

01 فبراير 2022
01 فبراير 2022

للفهم والحوار آدابه اللازمة لإمكان تحقق معرفة إنسانية منضبطة، في أي مجال من مجالات المعرفة. وأود ابتداءً أن أذكر هنا ثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى أن الفهم يسبق الحوار دائمًا، باعتباره شرطًا له (كما سوف يتضح لنا). والملاحظة الثانية أن الحوار لا يعني فحسب المحادثة بين شخصين من خلال نقاش أو سجال، وإنما يعني أيضًا الحوار بين الشخص المفسِّر وموضوع التفسير، أيًّا كان موضوع التفسير الذي يمكن أن يتمثل في نص فلسفي أو ديني أو عمل فني أو أدبي. وعلى هذا، فإن المفسِّر قد يتمثل في القارئ أو الناقد أو الفيلسوف؛ والحوار يكون بين المفسر والآخر، أيًّا كان هذا الآخر، حتى لو كان هذا الآخر هو الشخص الآخر الذي نحاول فهمه. والملاحظة الثالثة أن كلمة "الآداب" هنا تعني الشروط الأساسية ذات الطابع الأخلاقي التي تكون ضرورية لإمكانية تحقق المعرفة بما تنطوي عليه من تفسير عبر الفهم والحوار. ضرورة هذه الآداب تتبدى بصورة كبيرة في عالمنا العربي الذي تكاد تتوارى فيه هذه الآداب أو الأخلاقيات على مستوى الحوارات العلمية؛ ولكنها تتبدى بصورة أكبر في مواقع التواصل الاجتماعي، سواء في عالم "الفيس بوك" أو نوافذ المحادثات أو حتى مواقع "الهاشتاجات". هذه الشروط يمكن إيجاز أهمها بشكل تبسيطي في النقاط التالية:

***

الفهم المسبق ضرورة لإمكانية قيام أي حوار. والفهم المسبق هنا يعني أن يكون لدى الشخص معرفة وألفة بالفكر أو النص أو العمل الذي يريد أن يتحاور معه؛ وإلا فإن موقفه سيكون أشبه بموقف الدخيل الذي يجترئ على اقتحام الآخر من دون شفاعة، أعني من دون مؤهلات معرفية تشفع له. وعلى هذا، فإن الفهم المسبق يتأسس على معرفة مسبقة بطبيعة الموضوع (أو الشخص) الذي نسعى إلى التحاور معه؛ وهو ما يتيح لنا إمكانية قيام حوار مثمر، يؤدي بدوره إلى فهم أو معرفة أفضل.

الفهم المسبق لا يعني خلع تصوراتنا الذاتية ومعتقداتنا الخاصة على الآخر، بهدف وضعه داخل مفاهيمنا المستقرة، ومن ثم قولبته في أطر تصوراتنا الذاتية الخاصة. هذا التفسير الذاتي للآخر- بما هو آخر- هو ما ينبغي اجتنابه إذا كنا نسعى حقًّا إلى الفهم؛ وهو يمكن أن يتبدى في قمع الآخر من خلال عدم إتاحة الفرصة له لكي يعبر نفسه، وقد يتبدى ذلك في عدم الإنصات إلى ما يقول، أو في تفسير ما يقول بمنأى عن سياق الكلام، من خلال اقتطاع أو إغفال جزء من نص كلامه. يصدق هذا على الحوار مع شخص فعلي أو مع نص أو فكر ما.

ينبغي اجتناب شخصنة الكلام في عملية تفسير الآخر، والشخصنة تعني هنا أن المفسر بدلًا من نقد الفكر او الكلام المعروض أمامه، يقوم بنقد الشخص القائل أو المؤلف للنص المكتوب. فترى المفسر ينتقد أمورًا خاصة تتعلق بشخص القائل، أو ينسب إليه دوافع معينة من وراء كلامه، أو يفتش في نواياه. وهذا يرجع إلى أن المفسر يفتقر أصلًا إلى الفهم، ولا يجد مرجعية حجية لكلامه، فيلجأ إلى أغلوطة من الأغاليط المنطقية الشهيرة، وهي الأغلوطة التي تُسمى "برهان الشخصنة .argumenta ad hominem "" هذا النوع من التفسير الذي يفتقر إلى الفهم نجده شائعًا لدى كثير من الناس الذين يدَّعون المعرفة والثقافة من دون أن تكون لديهم أية أسس أو مصادر موثوقة لهذه الثقافة والمعرفة. ولذلك فإن الواحد من هؤلاء يكون غير قادر على محاورة الآخر- إن كان خصمًا في الرأي والحجة- من خلال مناقشة أفكاره ومحاولة التحاور معها؛ فيلجأ- بدلًا من ذلك- إلى التشكيك في مصداقية صاحبها، سواء من حيث معتقداته الدينية أو المذهبية أو من حيث انتماءاته السياسية، وغير ذلك من الأمور الشخصية التي قد لا تتعلق على الإطلاق بمصداقية الأفكار التي يطرحها.

***

مثل هؤلاء الأشخاص- الذين لا يعرفون شيئًا عن آداب الفهم والحوار- نراهم دائمًا في حياتنا اليومية: نراهم يتشدقون بعناوين بعض الكتب أو بعض المصطلحات التي سمعوا عنها من هنا أو هناك؛ متوهمين أنهم أصحاب معرفة وثقافة، ومتعالين بذلك على غيرهم من عوام الناس، رغم أن هؤلاء العوام ربما كانوا أكثر منهم فهمًا ومعرفةً؛ لأن معرفتهم تنبع من الخبرة المباشرة الطويلة بشؤون الحياة، بكل ما تنطوي عليه الحياة من تعرُّف على الأشخاص والأشياء والأفكار، وغير ذلك مما تمتحنه خبرة الحياة وتجربتها الطويلة. وهذا يعني أن المعرفة التي تنبع من التجربة والخبرة المسبقة تعد شرطًا ضروريًّا لكل معرفة حقيقية تتسم بالصدق والإخلاص. وأظن أن هذا هو الدرس الأساسي الذي يهف إليه مقالي هذا.

غير أن هناك أيضًا دروسًا عملية يمكن أن نتعلمها من مراعاة "آداب الفهم والحوار" في شؤون حياتنا اليومية، خاصةً فيما يتعلق بمواقفنا من الأشخاص الذين نتعامل معهم. فنحن نلاحظ أن معظم الناس يرتكبون خطأً جسيمًا في حكمهم المسبق على الشخص/الآخر بناءً على تصورات أو انطباعات ذاتية، ربما تأسست على السماع إلى ما يقوله البعض عن الشخص، وليس على الإنصات إلى الشخص نفسه من أجل محاولة فهمه والتعرف عليه.

مفاد ذلك إذن هو أن "آداب الفهم والحوار" ليست مجرد مبادئ نظرية تتعلق بأمور علمية ومنهجية في المعرفة؛ وإنما هي أيضًا ضرورات عملية تتعلق بشؤون حياتنا اليومية.

• د. سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة