Screen Shot 2020-04-24 at 2.09.27 PM
Screen Shot 2020-04-24 at 2.09.27 PM
أعمدة

دعوة إلى الحوار

17 مايو 2020
17 مايو 2020

غادة الأحمد

أورد أبو حيان التوحيدي في مقام (كراهة الجدل) نصين لأبي الدرداء وابن سيرين، فقد روي أن أبا الدرداء قال يوماً: "أحب ثلاثة لا يحبهن غيري، أحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، وأحبُّ الموت اشتياقاً لربي" فعارضه ابن سيرين بقوله: "لكني لا أحبُّ واحدة من الثلاثة، أمّا الفقر فوالله، للغنى أحب إليَّ منه، لأن الغنى به يوصل الرحم، ويحج البيت، وتعتق الرقاب، وتبسط اليد إلى الصدقة، وأما المرض، فوالله، لأن أعافى فأشكر، أحبُّ إلي من أن أُبتلى وأصبر، أما الموت فما ينفعنا من حبّه إلا ما قدمناه، وسلف من أعمالنا، فنستغفر الله عز وجل" يعلّق أبو حيان على الموضوع فيقول: "انظر بالله إلى خروج ابن سيرين، من كل ما دخل به أبو الدرداء، حتى لكأنّ الصدق فيه أبين، والبرهان على ما قاله أقرب، ولولا أن الطرق إلى الله مختلفة ما عرض هذا الرأي للأول، ولا عارضه الثاني".

كلا الرجلين صادق، ولا ينقض ابن سيرين كلام أبي الدرداء نقضاً تاماً، وإنما يبدي وجهة نظره بالموضوع نفسه، وإن كان يعرضها ببرهان جعل أبا حيان يعجب به، وهذا حقه، إنما أبو حيان يَعدل عن إعطاء فكرة الصدق التام لابن سيرين، فيستخدم (لكأن)، ويعقب (ولولا أن الطرق إلى الله مختلفة)، فقد كره أبو حيان هذا التمييز الحاد بين الخطأ والصواب.

فربما كان الخطأ عالقاً بالصواب، وربما كان الصواب مجرد وجهة نظر.

ولكن ما يحصل اليوم أن هناك مجموعة من المثقفين تجد في رأيها صواباً لا يحتمل الخطأ، وتجد في آراء محاوريها خطأ لا يحتمل الصواب!!! مما دفعني لإيراد هذين النصين عن أبي حيان التوحيدي، الذي أراه مقراً برأي ابن سيرين، ولكنه لم يبالغ في كشف الصواب فهو يرى أن الرجلين نظرا إلى هذه الأمور من جهات متفاوتة؛ فيحتمل رأيهما الصواب بقدر ما يحتمل الخطأ، ولكن مثقفي اليوم ناقضوا بعضهم بعضاً؛ وتمترسوا خلف آرائهم، ووصلوا إلى حدود التعصب، وتحويل المساجلات إلى (تصفية حسابات شخصية) مما يبرز حالة ثقافية بائسة مردها عدم قبول الآخر، وعدم الانجذاب معه إلى حوار يقوم على التفاعل والاختلاف للوصول إلى التوافق، واستيلاد المعاني الجديدة، وإيقاظ المشهد الثقافي الغارق في سباته!!

إننا محتاجون أولاً إلى قبول بعضنا بعضاً، في أمور أساسية من قبيل الدين والسياسة والأدب، ومحتاجون على الدوام إلى الحوار، والتسليم بطائفة مختلفة من الأفكار، وإلى تناوش هذه الأفكار وتصادمها، وإلى عودة الروح إلى جسد الثقافة. علينا ألا نجزع! بل أن نبتهج بهذا (الاشتباك) الدائر دون محاولة فضّه والتخوّف من نتائجه!!

وربّما تقع المسؤولية الكبرى في الإعداد إلى الحوار ووضع آلياته وإيجاد صيغ مقبولة لدى الجميع، وأرضية مشتركة ينطلق منها الحوار على حكماء المثقفين في أي مجتمع الذين تهمهم مصلحة الأوطان، وتقع على عاتقهم إيجاد المكان والزمان الملائمين لإدارة هذا الحوار، وتوجيهه نحو أرضية مشتركة تعمق فرصة التلاقي وتنبذ الفرقة والخلاف، وتدعو إلى قبول الاختلاف والتمايز فهو معيار التطور.

إن إشاعة ثقافة قبول الآخر (المختلف عنا في آرائه الثقافية والفكرية) تفتح الآفاق إلى ثقافة من نوع جديد يفتقدها المجتمع العربي هي ثقافة الحوار التي تنطوي على قبول الآخر واحترامه والاعتراف به وبحقه في هذا الاختلاف وتنطوي على التشاركية المبنية على قاعدة الهدف المشترك والعيش المشترك والوطن الواحد.