هوامش ومتون: عصافير شجرة (آدم)

24 نوفمبر 2021
24 نوفمبر 2021

من الأسئلة التي كانت توجّه لي: ما دمت مغرما بمدينة (البصرة) إلى الحدّ الذي تتحدّث به عنها، بكلّ هذا الشغف، وتتردّد عليها بين حين وآخر، كيف لم تخطر ببالك زيارة (شجرة آدم)؟

سؤال في الصميم، وكنت أجد نفسي محرجا، في الإجابة عنه، فبماذا عساني أن أجيب؟ هل أقول أنّ حكاية الشجرة، ظلّت لسنوات طويلة، بالنسبة للكثيرين، ليست أكثر من مرويّات يتناقلها الأهالي جيلا عن جيل، لكنّ المفاهيم الثقافيّة اليوم تبدّلت، وظهرت تيارات فنية، واتجاهات فكريّة، وإبداعيّة، تشتغل على المرويّات، وتنقّب في الثقافة الشعبيّة، والمتداول، بحثا عن عناصر جماليّة وإبداعيّة، مهما كانت بسيطة، لتعيد إنتاجها؟ فكيف يكون الحال مع شجرة يقال أن النبي إبراهيم - عليه السلام- صلّى عندها عام 2000 قبل الميلاد، وصارت اليوم مقصدا للسيّاح الذين يؤمّونها من مناطق بعيدة من العالم؟

لماذا لم يخطر ببالي أن أوسّع خطوتي في زيارة من زياراتي (للبصرة)، لأصل إليها ؟ هل أنّ زقزقات عصافير شجرة الحي لا تطرب؟

وهنا أستحضر، حكاية المغامر الذي مضى في رحلة شاقة قاطعا البحار، بحثا عن حجر نفيس، وعندما وصل، لم يجد شيئا، وقبل أن يغادر المكان خائبا سأل شيخا وجده هناك عن المكان الذي يجد به ذلك الحجر، فأجابه أنه في المكان الفلاني، وإذا الذي خرج منه!

فالعيون تظلّ مشدودة إلى نقطة بعيدة، وما نريده قد يكون قريبا منا، وفي متناول أيدينا، وعلى جناح هذه الحكاية، عدت إلى المكان الأول، الذي يقال أن سيدنا آدم التقى به جدّتنا حواء في المنطقة التي تحمل اسم (القرنة)، حيث ملتقى نهري دجلة والفرات، وتقع على مسافة 75 كم شمال مركز مدينة البصرة، وقد وفّرت الجهة المنظّمة لمهرجان المربد الشعري لنا فرصة زيارة (شجرة آدم) على طبق من ذهب، في ذلك الصباح الخريفي، كنت أتناول إفطار الصباح، في محل إقامة الضيوف برفقة صديقي د. سعد محمد التميمي، وأخي علي جبار عطية، ود.محمد الحياني، وحين دعتنا للذهاب إلى القرنة، وجدت نفسي أقفز نحو الحافلة التي أقلتنا حيث الشجرة التي قال عنها سيدنا إبراهيم (ع): «ستنبت في هذه البقعة شجرة كشجرة آدم في جنة عدن»، كما دوّن على المرمر الأبيض في ركن يقع بالقرب من شجرة يابسة، على لافتة مكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، وجاء في اللافتة: «في هذه البقعة المباركة، حيث يلتقي دجلة بالفرات تشرفت بزيارة سيدنا إبراهيم الخليل سنة 2000 ق.م»، تأمّلنا جذعها العاري من الأوراق، وهو يقف منتصبا، بوجه الزمن، والشيخوخة التي لم تنل منه، ولأن الورق تساقط عن أكتاف تلك الشجرة، صار من الصعب التكهّن بمعرفة نوع الشجرة اﻟﻌﺗﯾﻘﺔ، أو «البرهام»، كما يسميها الأهالي، أو شجرة إبراهيم الخليل، الذي يقال: إنه حين وصل القرنة، صلى في مكانها، وهناك رواية ترى أنه هو من زرعها، فحملتْ اسمه، ومن هذه المكانة اكتسبت أهمّيّة، ومكانة مقدّسة، فصار الأهالي يتبرّكون بها، ويشعلون البخور، ويوفون النذور، ويقبلون عليها، كلما تضيق نفوسهم، للدعاء، وطلب الحوائج فيقصدون المتنزّه الذي صار مرفقا سياحيّا، أنشئ عام2006م،، فيما تعلّق النساء قطعا صغيرة من القماش الأخضر، وهي مشاهد مألوفة في المقامات، والأضرحة التي تكتسب مكانة ترتفع إلى درجة القداسة، ويبدو أنّ هذه الشجرة لم يكن لها وجود في المصادر التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فالإنجليز عند احتلالهم البصرة، ودخول القرنة شاهدوا الشجرة، ولمسوا نظرة الأهالي لها بعين القداسة، فتساءلوا عنها، فأخبروهم أنها شجرة النبي آدم (ع)، باعتبار أن آدم التقى حواء عند ملتقى النهرين في القرنة، كما تقول المرويّات التي تبقى تبحث عن مصادر تؤكد صحتها.

وحين سألنا عن عمر الشجرة، أجاب المرشد السياحي: لدينا دراسة وضعها مختصون بناء على فحص لحاء الشجرة، تؤكّد أن عمرها نحو 400 عام، وهناك من يرى أن عمرها يصل إلى 600 عام، والفريق الثالث يعتبرها أقدم من ذلك، ولكن كيف يمكن لشجرة أن تصل إلى هذا العمر الطويل، وتظلّ تحمل بذور الحياة؟ أجاب المرشد السياحي: عندما ماتت الشجرة الأمّ نبتت مكانها شجرة جديدة، وهكذا استمرّت دورة حياتها، وبهذا ستظلّ الشجرة تواصل نقل حكايتها إلى الأجيال القادمة، لدخولها منطقة المقدّس، فصارت «مبروكة»، كما يطلقون عليها، طالما أن شدو العصافير التي تحطّ على أغصانها يطرب أهاليها، والسيّاح.