هوامش ومتون :ضجيج الكتابة.. وهدوء الغياب

22 مارس 2023
22 مارس 2023

كثيرا ما يواجهني هذا السؤال: هل أنت قريب من عبدالرحمن مجيد الربيعي؟ وكنت أصمت قليلا قبل الإجابة، مظهرا شعوري بالزهو، فالربيعي الذي غادر عالمنا يوم الاثنين الموافق 20 مارس، اسم كبير في السرديّة العراقيّة والعربية، وهو من المجدّدين فيها، لقد صال وجال في أروقة الثقافة العربية والمدن، والعواصم حتى استقرّ في تونس سنوات طويلة، وتزوج الكاتبة التونسية (رشيدة الشارني) وحمل جنسيّتها، وصار جزءا من المشهد الثقافي التونسي، ولم يغادرها إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، عندما كثرت أمراضه، وتراجع نشاطه، وقلّ حماسه، وذات يوم تواصل معي مترجم إيراني كان ينوي ترجمة روايته ذائعة الصيت (الوشم)، ويحتاج موافقته، فزوّدته بهاتفه، وكان قد عاد إلى بغداد، لكنه لم يرد عليه، وحين كلّمته، لم يهتم للأمر على الإطلاق، وهو الذي كان شعلة نشاط لا تهدأ، يومها علمت أنه يعيش حالة الشعور باللاجدوى التي يمرّ بها بعض الشعراء والكتّاب، حين تميل شموس حياتهم للأفول، وظننت أن الأمر حالة عابرة ونتيجة طبيعية لعواصف عنيفة ضربت حياته، لكن الحالة استمرّت، وعدت لأوراقي لأجد الإجابة في حوار أجريته معه قبل عشرين سنة، حين سألته إن كان راضيا عن حياته إجمالا ؟ فأجابني بكمّ من الأسئلة، هي «ماذا أقول لك ؟ وبماذا أجيب ؟ وأتذكر هنا قولا لأحدهم قرأته منذ سنوات لكنه لم يغادر ذاكرتي بل أنني أردّده بيني وبين نفسي في لحظات احتدامي وما أكثرها هذه الأيام. جاء في القول (كم كنت أخشى أن تكون حياتي على خطأ في النهاية): فلماذا أردّده ؟ هل لأنني أدركت بأنني سكبت سنواتي في قنوات الخطأ؟ ربما، ومع هذا أقول لك: لقد عشت حياتي بكثير من الصدق والصفاء بعيدا عن الإذعان والرضوخ والامتثال. لذا لم يستوعبني أحد بشكل كامل».

وشيئا فشيئا بدأ صوته يختفي من المشهد، الذي سرعان ما ينسى من يبتعد عنه، ولم تجد محاولاتنا للتذكير به وجهوده شيئا، وظل ابنه حيدر الذي كان يقيم في بيته المستأجر، وسط ظروف صعبة، على تواصل معي، وتمكنت من التحدث معه مرتين، مستذكرين بعض التفاصيل القديمة، وأسماء أصدقاء مشتركين بقيت محفورة في ذاكرته التي التهمت من جرفها صروف الزمان، كالراحل عبدالعزيز المقالح، ود.حاتم الصكر، وعدنان الصائغ، وفضل خلف جبر، وأمل الجبوري التي كثيرا ما كنا نلتقي في سكنها ببغداد أواسط الثمانينات عندما كان يأتي من بيروت زائرا، وكان أول لقاء جمعني به في ذلك المنزل بعد أن وصله (شيك) من مجلة سعودية باسمي بعد أن نشرت لي نصا، ولم تعرف عنواني، فبعثت المجلة (الشيك) له لتشابه اسم العائلة، فسأل عني الجبوري، فكلّمتني، ووفرت لي فرصة ثمينة للقاء هذا الكاتب الذي يتمتع بدفء إنساني، يشعرك بالألفة، ثم تكرّرت لقاءاتنا في صنعاء، والجزائر، ومسقط، وأجريت معه أكثر من حوار، وتبادلنا الرسائل، وكان يبعث مع ضيوف بغداد لنا من تونس كتبا ومجلات خلال سنوات الحصار على العراق، ليكسر الحصار الثقافي الذي فصلنا عن العالم، وكان ينشر لنا ما نبعثه ويعرّف بكتاباتنا وإصداراتنا، في حقل عن الإصدارات الجديدة دأب على كتابته في مجلة «الحياة الثقافيّة» التونسية التي عمل فيها سنوات طويلة.

وارتبط بعلاقات ثقافية مع شعراء وكتّاب كبار عرب، ساعد على ذلك عمله مديرا للمركز الثقافي العراقي ببيروت في الثمانينات، وكثرة أسفاره ومشاركاته في المؤتمرات والملتقيات الثقافية العربية، ورغم هدوئه كان شرسا في الكتابة « حين يتعلق الأمر بتعرية بعض حقائق حياتنا الأدبية» كما تقول الكاتبة غادة السمان حين كتبت عن كتابه (وجوه مرّت)، صريح، وجريء، وسيرته « أية حياة هي؟» تشهد على ذلك، أما روايته « خطوط الطول..خطوط العرض» الصادرة عن دار الطليعة ببيروت، فقد أودعت في المخازن حين وصلت بغداد رغم أنّه حذف منها الكثير، لكن طبعة ثانية صدرت منها بدون تشطيبات عن دار المعارف التونسية، ثم ترجمت للإيطالية ونشرت الترجمة في نابولي بعد ذلك صدرت منها طبعة ثالثة في المغرب عن تلك الجرأة يقول « لعل خروجي المبكّر من العراق، بنصوصي أولا ومن ثم بجسدي قد جعلني أتشبه بأولئك الكتاب الخارجين على التبويب تحت عناوين معينة والمنتمين إلى أنفسهم وإلى همومهم».

ورغم طوافه بين المدن والعواصم العربية والأجنبية إلّا أنه ظلّ مسكونا بماضٍ يجرّه إليه، لذا، حين عاد إلى العراق تملّكني هاجس غريب بأنه عاد لكي يهدأ جسده المتعب للأبد.