هوامش .. ومتون : ربابنة العلوم وجنرالات الأخلاق

21 يوليو 2021
21 يوليو 2021

عبدالرزاق الربيعي -

عندما سارت المراكب العمانية قاطعة عباب البحر شرقا، وغربا، لم تكتفِ بما حملت من لبان، وعطور، وبضائع أخرى، بل حملت على متنها ما هو أغلى من ذلك، القيم، والأخلاق، وهو ما جعل أحد أباطرة الصين حينها يطلق على أبي عبيدة العُماني لقب «جنرال الأخلاق»، وهذا جزء يسير من عطاء عمان الذي قدّمته للعالم، فقد عرفت عُمان تاريخيا بعطائها الحضاري الذي قدَمته إلى كثير من بلدان العالم، وهو العطاء الذي هو، كما ذكر علماء اللغة، «اسم لما يُعْطَى، وهو الهِبة وما يُعْطَى دون مقابل»، وقد ترك أثره على الحضارة الإنسانية، في مجالات عدّة لعلّ أبرزها في علوم اللغة، والصناعة المعجمية العربية، كما نرى في جهود ابن دريد، والفراهيدي الذي تتلمذ على يديه سيبويه، وفي مختلف مجالات الفكر الإنساني، والمعارف المختلفة، وقد قدّم العديد من الباحثين العمانيين، والعرب رصدا لهذه العطاءات، ولعل أحدثها كتاب حمل عنوان «ملامح من العَطَاءُ الحضاري العُماني ونظرة الآخر له» للدكتور إبراهيم عبدالمنعم سلامة أبو العلا، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، الذي سلّط على امتداد صفحاته الـ192 من القطع الكبير الأضواء، على هذا العطاء، الذي جاء جعل عمان تحتلّ مكانة حضاريّة تحدّث عنها المؤلّف في مقدمة كتابه، الصادر عن دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، تمتّعت بها عمان طوال تاريخها، وكان لهذه المكانة أسباب لعلّ أبرزها موقع عُمان، وفي أهميّة هذا الموقع يقول «كان له عميق الأثر في تكوين الشخصية الحضارية المُمَيْزِة لعُمان عبر عصورها التاريخية، إذ جعلها ملتقى التيارات الحضارية، وحلقة وصل بين الثقافات شرقًا، وغربًا، فسلك العُمانيون الطريق البحري ونبغوا في ركوبه، والاستفادة منه، فتهيّأت لبلادهم مكانة عظيمة في مجال النشاط التجاري، وأصبحت من أكبر المرافئ على الخليج والمحيط الهندي قبل الإسلام، وبعده، ومركز استقطاب للتجارة العالمية، فتدفّق عليها التجّار من الآفاق للحصول على الأرباح الطائلة التي تدرّها تجارتها، وانتعشت مدنها الساحلية، فكانت دَبا وصحار ومسقط مقصدًا للمراكب، ومجتمع التجار من جميع الآفاق، ومنها يتجهّز بأنواع التجارات لكلّ بلدة»، ومثّلت التجارة صلة الوصل بين عمان، والعراق وبلاد فارس، وكانت الطرق التجاريّة هي الشريان الذي يغذّي الحضارات القديمة، ويعقد صلات، ويساهم في التقارب بين الشعوب، والتعارف، يقول تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» سورة الحجرات آية 13، فلم يكتفِ العمانيون الأوائل بنشر علومهم فقط، بل تجاوز ذلك إلى عاداتهم، وثقافتهم المتسامحة، التي عرفوا بها بسبب انتقالهم من مرحلة الرعي إلى الزراعة التي جعلتهم يستقرون ويرتبطون بالأرض، مما خلّصهم من الكثير من العادات السيئة التي يشتهر بها أهالي الصحراء.

ويشير المؤلّف إلى صفات عُرف بها العمانيون كالبساطة والصراحة، ويتضح ذلك من خلال عاداتهم واتصالهم الاجتماعي، كما أنهم لا يتصفون بالتعالي والتفاخر أو التظاهر الذي يتصف به باقي الشرقيين «ولذلك يحبهم الأوروبيون ويقدرونهم»، كما يقول المؤلف مشيرا زهدهم، وتقشفهم وعدم المبالغة في الاحتفالات الدينية.

وقد تأثر البدو العُمانيون بطبيعة الصحراء العُمانية الجرداء التي عاشوا فيها، فقد طبعت صفاتها في ملامحهم، وفي هيئتهم القوية وأطرافهم النظيفة وتناول في فصول كتابه العطاء الاقتصادي الذي انطلق من أسواق دَبَا المشهورة في عصري الجاهلية وصدر الإسلام، والعلمي الذي قدّمه علماء عُمان شيوخًا لفقهاء الأندلس وجُرجان في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وخصص دراسة لرحلات جيمس ويلْستِد في نواحي عُمان الداخلية برحلته الثانية (نوفمبر 1835م - مارس 1836م)، وصارت مراجع للباحثين، وعلماء البيئة، والجغرافيا، والأنثربولوجيا الغربيين للاهتمام بعُمان.

وكلّ ذلك مع الاستشهادات بالنصوص التاريخية، والجغرافية، والأدبية، مع حرص المؤلف على توثيق كلّ رواية، ومن الأمور اللافتة في الكتاب أن العمانيين لم يحتكروا العلوم، والمعارف التي توصلوا إليها، بل عملوا على نشرها لتستفيد الشعوب المجاورة منها، وهذا هو دأب الشعوب المعطاءة كالعمانيين الذين وضعوا معارفهم، والقيم النبيلة التي تحلّوا بها على مراكبهم، فكانوا ربابنة العلوم، وجنرالات الأخلاق.