هل هو زمن الروايات القصيرة؟

13 سبتمبر 2022
13 سبتمبر 2022

" دفعني الهواء إلى البكاء. أفقت عند قاعدة جبل. لفح البرد وجهي. نهض " تاش" وهو بكامل تيقظه. كان على حق حين خطر له وجود أفاع هنا. خرجت من حقل الزهر، ثم من محيط البيت، ومرة أخرى رأيت الوادي الصغير ينفرش ليطل على سهل. كان " تاش" هادئا، أما أنا فبكيت. شيء ما يشبه الدرع المعدني تجعد في صدري" – من رواية " أقرب" لماريو أنخل كينتيرو-

تحدث القاص العراقي لؤي حمزة عباس في ملتقى سردي أقيم أخيرا في مدينة صلالة عن زمن الرواية القصيرة. هذا الرأي كنت أحدس به منذ زمن يمتد لنصف عقد. فبعد أن كنت اقرأ روايات عربية أو مترجمة من "العيار الكبير" إن صح التعبير، مثل رواية أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي بجزئيها في طبعة قديمة، والرواية الصربية " نهر على جسر درينا" لإيفو إندريتش، و"لعبة الكريات الزجاجية" لهرمان هسه، وروايات التركي أورهان باموق والياباني موروكامي التي تتميز بالضخامة، وكذلك روايات نجيب محفوظ وإلياس خوري التي تمتاز بالنفس الملحمي كرواية باب الشمس للخوري، والحرافيش لمحفوظ؛ الآن تصلنا روايات مترجمة كثيرة تمتاز بالقصر مثل روايات الألماني ستيفان زفايغ، والإسباني غونزالو تافاريس، وغيرهما كثير. قد يقول قائل إن هذه الروايات هي نوفلات في الأصل، أي كتبت على أن تكون قصيرة، ولكن ماذا لو لاحظنا أنه حتى روايات مسابقة البوكر العالمية، وهي مسابقة للرواية بمعناها غير المحدد، كما يؤكد ذلك مسماها، أصبحت مع مرور الزمن للروايات القصيرة نصيب من الترشح فيها، بل الفوز كذلك، يؤكد ذلك الخبر الصادر هذه الأيام عن الروايات المرشحة للبوكر لهذا العام، والتي من ضمنها روايات قصيرة، بل يؤكد الخبر أن من بين هذه الروايات المرشحة"أصغر رواية في العالم" لا شك أن الجوائز انتبهت في ذلك إلى طبيعة العصر الذي نعيش، المتميز بالتوتر والسرعة، بعد عصر سابق يتميز بالاسترخاء والتمدد إلى درجة أنه يمكنك أن تقرأ في يوم ونص رواية ضخمة لدوستويفسكي وهو ما كان يحدث كثيرا لكاتب هذه السطور. أما الآن فإنه أصبح للقراءة مشقة بسبب ضيق الوقت واختراقات وسائل التواصل الاجتماعي التي تسرق حوالي ثلثي الوقت الذي كان مخصصا في السابق للقراءة. لذلك فإن البروز الذي نلاحظه للروايات القصيرة له ما يبرره، وإقبال الترجمة عليها له ما يبرره كذلك. فنيا كذلك يمكن أن تعتبر الروايات القصيرة ساحة حقيقية للمبارزة على جودة العمل، فليس سهلا أن تكتب رواية خالية من الحشو والإطناب، رواية تتميز بالتكثيف الشديد، ولكنها في نفس الوقت حاملة لفكرة جديدة مدهشة. هذا الأمر لا يعني زوال الروايات الطويلة نهائيا، بل إن بعض المواضيع وخاصة التاريخية منها لا يمكن أن تحتويه وصفا وتوثيقا وتخيلا إلا روايات واسعة، مثلا في رواية الذرة الرفيعة الحمراء للكاتب الصيني مويان وهي رواية مشوقة، استطاع فيها أن يوثق فترة احتلال اليابان للصين في الثلاثينات، رواية مكتملة الأركان تمسح تلك الفترة الغامضة من التاريخ بطريقة فنية محايدة. الأمر عينه نراه مع رواية الكاتب اليوناني نيكوس كزنتزاكس في روايته " الحرية أو الموت" التي وثق فيها فترة الحكم التركي لليونان في رواية عذبة رغم كبرها تنظر إلى الأتراك واليونانيين بعين الأخوة الذين دفعوا إلى الحرب دون مشيئتهم. عين متساوية تغوص إلى جوهر الإخاء والمشترك الإنساني بين جارين فرض عليهم أن يكونوا عدويين، خرج الأتراك من اليونان وبقيت الرواية الخالدة. إلا أن هذا النوع من الروايات المعتمد على ما يسمى في النظرية النقدية الحديثة بالمتخيل التاريخي، لا يمكن كتابته إلا بهذا الشكل الملحمي الموسع. إلا إذا كان الروائي يقصد تبئير زاوية محددة من التاريخ استطاع أن يكثفها في رواية قصيرة كما فعل مثلا الياباني شيتشيرو فوكازاوا في روايته " ناراياما" التي لم تتجاوز الثمانين صفحة، ولكنه استطاع أن يستثمر فيها لقطة تاريخية أو عادة اجتماعية إنسانية كان يقوم بها – في ما مضى- بعض القرويين اليابانيين، عادة تدخل في سياق الحج الروحي، فحين بلغت الأم عمر السبعين، حملها ابنها على ظهره لكي تزور جبلا مقدسا في منطقة بعيدة.

ربما لو كان قيض للناقد المصري المعروف جابر عصفور قبل رحيله أن يضيف فصلا لكاتبه المشهور " زمن الرواية" - من يعلم- ربما انتبه إلى هذه النقطة وأضاف كلمة "القصيرة". وبما أن الرواية العربية من حيث التأصيل استوردت هذا النوع الأدبي من الغرب، بعد أن كان الشعر هو السائد، الأمر الذي جعل جابر عصفور يؤلف كتابه رادا فيه على القائلين ببقاء الشعر وسيادته، فإن هذه الرواية القصيرة غدت هي السائدة لدى الجيل الجديد من الكتاب الغربيين، ويكفي دليلا على ذلك ما يتم ترجمته لكتاب غربيين من مواليد أواخر الستينيات و السبعينات والثمانينيات ( أي من هم في أعمارنا) لنرى أنها روايات تتميز بالتكثيف والقصر؛ على سبيل المثال أخيرا قرأت رواية في جلستين حملت عنوان" أقرب" للروائي اللاتيني ماريو أنخل كينتيرو، وهو من مواليد 1964 وتقع الرواية في 79 صفحة فقط، ولكنها مكثفة تعبر في مونولوج وصفي آسر، عن رحلة عائلة ذاهبة لزيارة قريب بعيد يعيش سكرات الموت.