هل التوقف عن الكتابة أسطورة؟

05 فبراير 2024
05 فبراير 2024

لم تخطر ببالي فكرة أن يتوقف الكاتب عن الكتابة مهما تفاقمت الأسباب والظروف، لأن الكتابة قبل أن تصبح وسيلة للتعبير، هي طريقة لفهم مسالك الحياة ودروبها، وقبل ذلك كانت وثيقة لحفظ حق الإنسان في الوجود منذ اختراع التدوين في وادي الرافدين وإلى الآن.

حين تصفحت الدراسة المنشورة في مقدمة رواية (بيدرو بارامو) للكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917-1986)، لفتت انتباهي عبارة كتبها خوسيه كارلوس جونزاليس بويسكو في مقدمة الطبعة الأسبانية الصادرة عن دار كاتدرا، وهي مقدمة مفتاحية لفهم الرواية المُعقّدة التي لا يتجاوز عدد صفحاتها مائة وخمسين صفحة، التي يقول عنها خوسيه: «إن رواية أمريكا اللاتينية تحولت في العقد بين عام 1940-1950 إلى كلاسيكيات أدبية، وفي ذلك الوقت كانت قد بدأت عملية تحول خوان رولفو إلى أسطورة وأسهم هو نفسه على نحو غير مباشر في خلق هذه الأسطورة عندما توقف عن النشر»، ومع ذلك تُعد رواية (بيدرو بارامو) واحدة من أهم الروايات العالمية. قال عنها الروائي الكولومبي جابريل ماركيز (1927-2014): «إنها غيرت حياته وألهمته لكتابة روايته الشهيرة مائة عام من العزلة»، أما الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) فقال عنها: إنها «أعظم النصوص المكتوبة بأي لغة». ترجمها إلى اللغة العربية مروان إبراهيم، وصدرت عن دار المأمون في بغداد سنة 1990.

حرضتني العبارة أعلاه على تساؤلات عدة من قبيل، متى تكون حالة التوقف عن الكتابة أسطورة؟ وأي شجاعة يمتلكها الكاتب لإعلان ذلك دون اللجوء إلى الاعتداء على الذات عبر الانتحار الذي أودى بحياة كل من الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا (1899-1972) وقبله بسنتين صديقه ومواطنه الكاتب والروائي يوكيو ميشيما (1925-1970)، وكذلك الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي (1899-1961) والكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1889-1941) والكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث (1932-1963)، وفي عام 2008 انتحر الكاتب الأمريكي فوستر ولاس (1962-2008) صاحب رواية «دعابة لا تنتهي».

أما في منطقتنا العربية فقد أجهز على نفسه الكاتب والروائي المصري وجيه غالي (1930-1969)، بعد نشره لرواية بيرة في نادي البلياردو سنة 1964 الصادرة باللغة الإنجليزية عن دار بينجوين، وتوقف إبداع غالي الذي لم يصل إلى القارئ العربي إلا بعدما تُرجمت أعماله إلى اللغة العربية في بداية الألفية الثالثة. ولكن يبدو أن غالي كان أكثر حظا من مواطنته عنايات الزيات (1936-1963) التي لم تستطع نشر روايتها الحب والصمت، فانتحرت ولم تطبع روايتها.

مؤخرا أعلن الكاتب البيروفي ماريو برجاس يوسا (87 عاما) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2010، عن «اعتزاله للكتابة في أكتوبر الماضي وفقا لصحيفة (لاريبوبليكا) البيروفية، بعد أن ينشر عمله الأدبي (أهدي صمتي لك) في دار (ألفاجوارا)»، وتُعد هذه حالة نادرة في الإعلان عن التوقف عن الكتابة، إذ سيتفرج صاحب الرائعتين الشهيرتين «حفلة التيس» و«بنتاليون والزائرات» على انطباع القراء عن أعماله التي أمضى أكثر من ستين عاما في كتابتها ونشرها.

وإذا أعلن يوسا عن اعتزال الكتابة كما يفعل الرياضيون، فإننا في المنطقة العربية لم نشهد شيئا كهذا، وإن كانت هناك حالات توقف لبعض مشاهير الكتابة الإبداعية أمثال الكاتب والروائي السوداني الطيب صالح (1929-2009) صاحب الرواية الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، الذي توقف عن النشر في أوج شهرته، وصرّح في حوار له مع الكاتب المصري سيد محمود (منشور في موقع إيلاف) بالقول: «أظن أن الكتابة هي نشاط واحد ضمن نشاطات عدة في الحياة، وهناك أشياء أخرى غير الكتابة يمكن أن يفعلها المرء وتسعده بالقدر نفسه»، ويتابع قوله: «أنا لم أتوقف إطلاقا عن الكتابة، على رغم من أنني توقفت عن نشر الأعمال الروائية حتى صدرت رواية منسي».

في عُمان أعلن الشاعر عبدالله الخليلي (1922-2000) أحد أهم الشعراء العمانيين عن استقالته من كتابة الشعر، وذلك في عام 1983، وكان ذلك أول إعلان عن التوقف عن الكتابة الإبداعية في عُمان.

لم يُعلن خوان رولفو توقفه عن الكتابة، «لم يصرح قط بأنه لم يكن يكتب»، إذ أصدر مجموعة قصصية بعنوان «السهل المحترق»، ترجمها إلى العربية بسام البزاز، ولكن إبداعه لم يتجاوز روايته الوحيدة. أظن بأن القراء سيحترمون قرار الكاتب الذي يُعلن توقفه عن الكتابة، لأنه لم يعد بمقدوره تجاوز أعماله، أما التكرار ومحاولة تفقيس النصوص فلا تقنع قارئا ولا تلبث في أذهان العِباد، وأجد أنه من الضروري أن يُفكر الكاتب في موعد اعتزاله للكتابة الإبداعية، إذ الأفضل للكاتب الذي لم يعد في وسعه اجتراح المزيد من الأفكار ومعالجتها وتوظيفها أدبيا أو علميا، أن يُعلن عن استراحة مؤقتة أو دائمة ويستمتع بالقراءة. إذ ربما يتحول قراره إلى طريقة أخرى للترويج لأعماله الكتابية.