هذيان الرغبة في الانعزال

24 أغسطس 2021
24 أغسطس 2021

حسب معجم تفسير المعاني تعني كلمة هذيان "التكلم بغير تفكير" بالنسبة لي هي نوع من اللهو، على غرار تيار الوعي الأدبي، فرجينيا ولف وفوكنر وآخرين، ممن تداعوا في كتابتهم الأدبية، أحاول هنا أن أهذي على سبيل اللعب أولاً، والتحايل والثورة على الانضباط، إنه شكل من التمثيل الروحي لحالتي الوجودية في هذه الفترة، قطعة من التآمر على الوعي، ومقاومة لسلطة الكتابة التقليدية والموضوعية.

متى كانت آخر مرة شعرتَ فيها بأنك لا تعرف شيئاً؟ وعليك البدء من جديد، أشعر بهذا كل مرة أعيش فيها اضطراباً نفسياً، رغبة حارقة في الصفحة البيضاء، في أول السطر، في إعداد قائمة بما ينبغي عليّ إنجازه، في الكتب التي لا يمكن تأجيلها أكثر، وفي الأميال التي سأركضُ فيها للحفاظ على صحة ولياقة جيدتين من أجل المشاريع الجديدة.

سأطبخ في المنزل، وجبات أفضلها مع أعشاب مجففة، سأشرب الكثير من الماء، ولا أنسى الذهاب للبحر، الوقوف هنالك طويلاً وتنفس الهواء كما لو أنني الراهب في لوحة كاسبر ديفيد فريدريش "الراهب بجوار البحر". سأردد ذلك الجزء الذي أحب لآن كارسن "الأشياء الكبرى هي الريح، الشر، حصان مقاتل جيد، حروف الجر، حب لا ينضب، الطريقة التي يختار بها الناس ملكهم. الأشياء الصغرى تشمل التراب، أسماء مذاهب الفلسفة، المزاج وألَّا يكون لديك مزاج، الوقت الصحيح. إجمالًا، توجد أشياء كبرى أكثر من الأشياء الصغرى، ورغم هذا توجد أشياء صغرى أكثر مما كتبت هنا، لكن من المحبط وضع قائمة بها".

لطالما انتشلني فضولي من حالات الاستسلام والوهن، كتبتُ عن هذا قبل عام في نفس مساحة الكتابة هذه، عقدتُ مع القارئ اتفاقاً بأننا منفتحون على بعضنا، ويمكن لأحدنا أن يقول بأنه ضجر ببساطة، أو متعب، وغالباً ما كانت الكتب طريقتنا في التعافي، والعودة مجدداً، يبدأ الأمر برمنسة المكتبة والمعرفة "الكيتش" الذي لا نمله، التكرار الهائل للأسئلة الإنسانية الكبرى والصغرى، تقليب الصفحات، على أمل الوصول لمكان آمن، لشيء يستثير فضولك فيدفعك للمتابعة، إذ يلوح به مجازٌ لدافع العيش والاستمرار.

أمر هذه الأيام بوعكة صحية صاحبها مزاج قاتم، تركتُ على إثرها فعل أي شيء ذا بال، وبدأتُ بمتابعة أعمال سينمائية بدافع التسلية، قصص تقليدية، مسارات معروفة للحبكة، أنماط متوقعة للنهايات القادمة، ولأول مرة لم أقرأ شيئاً سوى 30 صفحة من قصص بورتريه النسيان للكاتبة اللبنانية رينيه الحايك.

تمكنتُ بعد أسبوع من الخمول المطرد مع وضعي الصحي من قراءة مجموعة من المقالات التي أحرص على متابعة كتابها، ثم توصلتُ لتلك الفكرة بأنني لا أعرف شيئاً. آن كارسن مرة أخرى تكتب : "كيف تتقدم إلى الأمام كأنما لتكشف عن حكمة ما ثم ها نحن هناك نرتعد مرة أخرى في مؤخرة الكهف " وتقتبس من عصابية كافكا " “أستطيع أن أسبح مثل الآخرين إلَّا أن لدي ذاكرة أفضل من الآخرين، ولم أنس عدم مقدرتي السابقة على السباحة. وبما أنني لم أنسها، فإن قدرتي على السباحة لا جدوى منها، ولا أستطيع أن أسبح برغم كل شيء.”

في عصر الوفرة هذا ثمة وهم بأننا نستطيع التقاطع مع ما يهمنا أو يجعلنا في حال أفضل، لكن هذا غير صحيح، الوفرة تضع الإنسان أمام شعور بالتخمة، أو بكثرة تدفق المعلومات، مما يجعله عاجزاً عن معالجتها، أو الشعور بعبء التعامل معها في حين أن المرجو منها عادة يتمثل في إيجاد السلوى. لذلك على الإنسان في لحظة ما أن يقرر العزلة الفعلية، على طريقة هنري ثورو في كتابه "ولدن" عندما اعتزل الناس ليسكن في كوخ صغير متهرباً حتى عن الضرائب. وسأقتبس هنا لزهرة ناصر مترجمة كتاب التجرد التقني لكارل نيوبورت من مقالها عن الكتاب "بالحديث عن ثورو، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عند توصيل التلغراف بين مينا وتكساس، وامتعاضه من الفلاحين الذين يتركون مقاعدهم المريحة في الأمسيات للذهاب إلى محطات التلغراف في البلدة للتحقق من البرقيات القادمة، ما تراه سيفعل لو كان هنا اليوم؟ هل سينتف شعر رأسه لو عرف أننا اقتلعنا محطة التلغراف وأتينا بها إلي مقاعدنا المريحة؟" فنحن على حد تعبير ثورو "جموعٌ من البشر، يعيشون حياة يأس هادئة".

أما كتاب "التجرد الرقمي" فهو يعرض مجموعة من التمارين الهامة للوصول إلى تقليص حضورنا في العالم الافتراضي "وسائل التواصل الاجتماعي" والإنترنت عموماً ولعل أكثر ما لفتني ذلك التدريب الذي جاء بعنوان "اختل بنفسك" ركز الكاتب في هذا الفصل على السكون بصفته واحد من الأشياء التي شكلت تاريخ أميركا، الأمر المثير للغاية، فكيف يمكن للصمت والهدوء والعزلة والهشاشة الإنسانية أن تكون شيئاً مهما في صناعة تاريخ البلاد، يستدعي الكاتب قصة لينكن، الذي جاء في ظل الحرب الأهلية في أمريكا، لكنه في إحدى المرات وبينما يعالج أوضاعاً بائسة في بلاده التي لم يستلمها وهي بخير، قرر أن ينعزل في كوخ مع زوجته وابنه بعيداً عن قصره والناس، كانت هذه الطريقة ناجعة كما سيخبرنا التاريخ وإنجازات لينكن التي لا تنسى.

يتحدث الكتاب عن العزلة وفضائلها، مثل الاتزان العاطفي الذي ينتج عن التأمل الذاتي البطيء، وأنه من الخطأ الظن بأن العلاقات الحميمة شرط من شروط النمو والنجاح. برز هذا بصورة كبيرة حتى في قراءة الميول الجنسية لدى العديد من البشر، إذ تبحث بعض الدراسات العلمية اليوم عما يدعى بالشخصية "اللاجنسية" على اعتبار أن كثيراً من الناس يكتفون بحياتهم المنعزلة دون وجود شريك، دون أن يشكل هذا أي تهديد على حياتهم.

شعرتُ اليوم بأنني لا أعرف شيئاً، ولا يوجد خارطة سحرية للوصول إلى إجابات، شعرت بأنني عدت لأكون تلك الطفلة التي عليها أن تحل المتاهة في صفحات مجلة ماجد، التي تزداد صعوبة مع مرور الوقت، ومع ذلك لا أمتلك الدافعية ولا الرغبة في حلها، أطالعها بتعب، ثم أقلب الصفحة. ربما عليّ أن لا أعرف شيئاً الآن، وأن اسمح لنفسي بلحظات صفاء، للتخلص من قلق وتوتر الحضور في جدالات العالم وأسئلته، عدم خوض حديث لهو رفاهية بلا شك، هذا يعني أنني لست مضطرة لإجراء أي محادثة، إنه ضرب من الحظ في حياة يومية بوتيرة متسارعة فيها عمل ومضاربات ومقايضات لا تنتهي.

لن أكتب أي قائمة ولن تنتهي هذه المقالة بالأمل، أو بالتحريض على شيء، لا بأس بأن نعلن أننا سنتوقف الآن، وأن هشاشتنا هذه قد تصبحُ مكوناً رئيساً فيما سنفعله مستقبلاً.