نوبل للآداب 2021

19 أكتوبر 2021
19 أكتوبر 2021

ناقشتُ مع صديقي الكاتب الأردني نذير ملكاوي، تصريحات نوبل أثناء إعلان الجائزة قبل أسبوع عن الفائز في فرع الآداب الكاتب عبدالرزاق قرنة، وكان تعليقه الغاضب على بيان الجائزة والصحف العالمية التي تلقفت البيان لتعيد تصديره عبر تنويعات عديدة، إنه ومع فوز بيتر هاندكه الكاتب النمساوي بالجائزة عام 2019 أعلنوا هم أنفسهم بأنه لا علاقة لنوبل للآدب بمواقف الكاتب السياسية، وذلك لأن فوز هاندكه عد جرأة كبيرة، ليس من قبل المهتمين بالأدب في العالم فحسب، بل حتى هاندكه نفسه الذي أشار في أكثر من مناسبة لهذا الموقف الجريء، بعد أن خاض هاندكه تجارب شتى مع الجوائز وإعادة سحبها أو التظاهر في بعض الأحيان ضد فوزه بها، وذلك على خلفية موقفه البشع من مذبحة البوسنة وتأييده للتطرف الصربي.

لكن جائزة نوبل هذا العام تفاجئنا بأن مواقف الكاتب السياسية ذات قيمة مهمة، فتقرر تجاهل القيمة الفنية، وأن تختزل هذا الفائز الجديد بأنه أديب "ما بعد الاستعمار" وأنه يجمع بين الثقافة الشرقية، من بلاد فارس والعرب وألف ليلة وليلة والقرآن الكريم إلى شكسبير الذي تأثر به أكثر من غيره. بدا بيان الجائزة بالنسبة لنذير أقرب لبيان يليق بمنظمة حقوق لاجئين من أنها جائزة معنية بالأدب. يتجاهل البيان قول أي شيء عن موقف قرنة من إنجلترا التي يكتب عنها في كتابه “Admiring Silence” عندما يسترسل قائلا: " قف على ضفاف نهر التايمز وانظر شمالا، وانظر إذا ما كنت قادرا على الهروب من الإحساس بالرهبة أمام ما تم تشييده، تلك الأبراج الضخمة ذات الأعمدة والأقبية، انظر لتلك الأديرة المترامية والقصور الرائعة المذهبة بالأضواء..."

فلنتأمل مثلا مطلع الخبر الذي قدمته صحيفة نيويورك تايمز عن الفائز: "تكريم الكاتب التنزاني عبدالرزاق قرنة بنوبل وهو أول فائز أسود منذ توني موريسون" لا أستطيع وصف الفزع الذي تبثه عبارة كهذه في نفسي، إنني أعرف جيداً أننا نعيش في عصر "الصوابية السياسية" وأن هنالك اتجاهًا ساديًا نحو تمثيل مختلف الطبقات والخلفيات الإنسانية على المنتجات، من السهل أن نلاحظ مع مرور الوقت أن كل هذا تحول إلى قدرة خارقة على تسليع كل شيء، مفزع جدا أن ترى فيلمًا يبث على نتفليكس يصور حقبة الملوك في إنجلترا في القرن السابع عشر وأحد أفراد العائلة أسود، لأن الوقت الذي نعيش فيه يتطلب قدرا من التمثيل حتى وان كان على حساب التاريخ والدم، أو حتى استمرار الواقع التمييزي الذي نواريه خلف طبقات من التصوير المتعاطف القابل للاستهلاك، ما يفزعني شخصيا هو أن الأدب لطالما كان مضادا للاختزال، إنه طريقٌ لطالما آمنا في انه يستطيع مقاومة تسليع الأشياء، ومع ذلك لم لا نختزل، لم لا نقول عن كاتب فاز بأهم جائزة للآدب بأنه أسود وحسب!

أما الغارديان فبمادتها التي كتبها ديفيد شريتدامري تبدو أكثر رغبة في معرفة الفائز الجديد يكتب ديفيد وأترجمُ هنا بتصرف: " منذ ما يزيد على ٢٤ ساعة كان قرنة مؤلفا لعشر روايات حازت على إعجاب النقاد، جالسا في مطبخ منزله بكانتربري، حيث يعيش بعد تقاعده كأستاذ للغة الإنجليزية في جامعة كنت. أشار اقتباس الأكاديمية السويدية إلى توغله العاطفي في أثار ما بعد الاستعمار ومصير اللاجئ بين الثقافات. بينما احتفل آخرون بشعرية كتاباته، وبالطابع الحزين العذب الذي يطغى عليها" إلا أن المقال سريعا ما يذهب لتعداد الفائزين السود بالجائزة في تاريخها الذي يمتد لـ ١٢٠ عاما.

كاندي ناست بدورها وعبر نيويوركر، تكتبُ أكثر عن لقائها الأول كقارئة بكتب قرنة عام ٢٠٠٩، وعن الحماسة التي دفعتها لتأجيل كل شيء وقراءة عمل لم تكن قد قرأته للكاتب. وتستحضر للأهمية اقتباسا من مقال لقرنة صدر عام ٢٠٠٤ بعنوان "الكتابة والمكان" والذي يشير فيه قرنة إلى أن الكتُاب يأتون إلى الكتابة من خلال القراءة، التي هي عملية تراكمية من الصدى والتكرار، الذي يشكل سجلاً يُمكن هؤلاء الكتاب من كتابة أعمالهم. ثم يستعرض قرنة سجله الخاص منذ نشأته في زنجبار، والأدب المكتوب بالسواحيلية لغته الأولى، إلى التعليم البريطاني الاستعماري الذي نفرَ منه هناك، وإلى علاقته بتعلم القرآن في مسجدهم المحلي آنذاك. وصولاً للقراءة بالإنجليزية بعد فراره من زنجبار إلى إنجلترا كلاجئ.

تنوه ناست لأهمية الخروج من دائرة التقاليد الضيقة للتقاطع مع الكتابة الأدبية، إذ أن قراءة قرنة وآخرين تتطلب مراجعة هذا السجل الذي حكى عنه قرنة، إن ذلك كفيل بالتلاقي الحقيقي مع الإشارات والتناص في نصوص الكاتب، وإنها في حالة قرنة: الشعر السواحيلي، والحكايات الإسلامية، وحتى الكتب المدرسية البريطانية الاستعمارية التي شكلت أجيالا من الكتاب في جميع أنحاء العالم.

لحسن الحظ أن جريدة عمان قدمت لنا ترجمة رائعة لمقالته "الزمان والمكان" فور حصوله على الجائزة كما قدمت مواقع عربية عديدة ترجمات وتعريفات بالكاتب للقارئ العربي، حتى الآن لم نعرف شيئا عن الدار التي حصلت على حقوق ترجمة كتبه للعربية، نأمل أن تكون دار نشر قادرة على تقديم كتبه بترجمة ممتازة على أقل تقدير. لفتتني شخصيا ترجمة لجزء من روايته التي صدرت عام 2011 بعنوان الهدية الأخيرة، لأسماء يس على موقع "مدينة"، تحكي قصة عباس البحار الذي يصاب بنوبة سكر تسقطه ذات يوم عند باب بيته الذي يجمعه بزوجه مريم، حكى هذا الجزء القصير من الرواية عن لقائهما وعن شعور عباس تجاه ذاته والعالم، يكتب قرنة:" ربما كان القلق عادة عقلية لشخص غريب لا يتوافق مع محيطه، يرتدي ملابس خفيفة كي يتمكن من التخلص من معطفه بسرعة عندما يحين الوقت للهرب. كان هذا ما اعتقده. كان يرتدي ملابس غير مناسبة لأسباب غبية خاصة به، وكان البرد يجعله يرتجف بشدة، وأحس بارتعاش داخلي جعله يشعر أن عظام جسده على وشك أن تتلاشى." وقد أسرتني التفاصيل الصغيرة التي يكتبها قرنة هنا، ولا أملك إلا استعدادا حقيقيا لقراءة كتبه والاحتفاء بها.