نوافذ: من اخترع المدرسة!

13 يونيو 2021
13 يونيو 2021

هدى حمد -

«لو تمكنت من العودة بالزمن إلى الوراء.. ماذا كنت ستفعل؟»، «كنتُ سأقضي على آينشتاين الذي ورّطنا بالفيزياء، وأنت ماذا كنت ستفعل؟»، «كنتُ سأقضي على الرجل الذي اخترع المدرسة». دار هذا الحديث الغريب بين صبيين اثنين كانا في زهقٍ قاتلٍ من الدراسة، وبقدر ما دفعاني للضحك بقدر ما جعلاني أفكر في سر كراهيتهما!

ليس علينا أن نكون مثاليين، فكلنا بطريقة أو بأخرى أردنا أن نقضي على «مُخترع المدرسة»، وربما ظرف كورونا الاستثنائي صعّد المسألة بطريقة دراماتيكية. لنتفق أيضا على أنّه ظرف يخوضه العالم بأسره على تنوع استعداداته وإمكانياته، ولكن يمكننا التحدث عن البقعة التي تخصنا، والتي يبدو أنّ التعليم فيها قد تضرر كثيرا في السنتين الفائتتين!

لا أدري لماذا تذكرتُ الأمّ «مالوري» في فيلم Bird BOX، والتي لعبتْ دورها ساندرا بولوك، عندما توجب عليها حماية طفليها، فقطعتْ معهما النهر للنجاة من مخلوقات عجائبية، وقد عصبوا أعينهم جميعا كيلا ينظروا إليها. قد لا تبدو العلاقة واضحة تماما بين الفيلم وموضوعنا، ولكن تلك الأمّ كانت مستعدة لبذل الكثير لتدفع البلاء عن طفليها، ويبدو أننا جميعا في ظرف جائحة كورونا نسير معصوبي الأعين، محاولين الوصول إلى النهر.

إذ تغدو «الشبكة» الجيدة ترفا لا يقدر عليه كثيرون، ناهيك عن مدارس في مناطق نائية محرومة من الأنترنت أصلا! لقد ذهب جُلّ الفصل الأول في تعلم كيفية استخدام المنصات، وذهب جُلّ الفصل الثاني في ترميم ما قد فات! حتى أنّ الكادر التعليمي لم يكن جاهزا، وخبرته بالبرامج التقنية متواضعة غالبا، بل ربما فاق بعض الطلبة أساتذتهم وتمكنوا من الإفلات والتزويغ!

قالت ابنتي إنّ أكثر ما تفتقده هو وجه معلمتها والأصدقاء، وأن الدراسة عن بعد تشوش أفكارها. وقد عانى بعض الطلبة من آلام شديدة في العنق والكتفين والظهر، فما أن ينجز أحدهم أعماله إلكترونيا حتى تكون مكافآت الترفيه إلكترونية أيضا..الأمر الذي يعني المزيد من الجلوس والانحناء، والمزيد من السمنة.. نشفق على أبنائنا، لكن العالم مُغلق في الخارج وشبح الوباء يتخفى كأشباح «مالوري»!

كفقاعات صابون تتفرقع بسرعة في الهواء، هذا ما شعرتُ به إزاء تململ طلاب الحلقة الأولى، والصعوبة التي واجهتها المعلمات في السيطرة على أمزجتهم الطفولية المتقلبة، وأمام أعدادهم الكبيرة كان من الصعب ربط التعلم بالترفيه واللعب إلا فيما ندر.

أما المناهج التي كنا نعول عليها أن تُخرج أولادنا من قمقم ضجرهم اليومي، كالتربية الرياضية والموسيقى والرسم، فقد راحت تنغمس أكثر وأكثر في الجانب النظري المقيت والأسئلة شديدة «الغلاسة»، عوض أن ترفع عنهم القلق والذعر والخمول، وتجعلهم ينخرطون في أنشطة لطيفة!

جميعنا بدرجة أو بأخرى تورطنا في تقديم مساعدات لأبنائنا ونحن معصوبو الأعين، لكن الشيء الفادح حقا هو إعلاء قيمة الدرجات على قيمة التعليم، فلم يتوانَ بعض الآباء والأمهات عن الجلوس مكان أبنائهم وحل الأسئلة، لم يشعروا بأي حرج في ذلك، مبررين تصرفهم أن «السنة خربانة.. خربانة»!

لقد سرق بعضهم البحوث الإلكترونية الجاهزة دون لوم أو محاسبة، الأمر الذي ذكرني بما كانت تقوله زوجة الطبيب في رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو: «اعتقد أننا عميان يرون.. يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون». على الرغم من أننا شعوب تتشدق بالصدق والأمانة ومراقبة الله في السر والعلن، ولكن تنكسر هذه الصورة البراقة ما أن نغدو تحت تأثير «الدرجات»!

لكن ليس علينا أن نغفل الفائدة اليتيمة أنّ أولياء الأمور-وبقدرة قادر- باتوا على دراية كافية بمناهج أولادهم التي كان بعضهم لا يعلم عنها شيئا، وعلى معرفة بالمنصات التعلمية وبعض البرامج الحديثة التي اضطروا لاستخدامها، وكما تقول النكتة الشهيرة: «ينتهي العام الدراسي والأمهات أكثر استعدادا لخوض الامتحانات من أبنائهن».

عندما قال ابني أنّ مهاراته في استخدام أصابعه فوق الكيبورد باتت أفضل من السابق، وعندما شاهدتُ ابنتي تتقن مهارات لم تكن بحوزتها من قبل، وعندما تمكن بعض المعلمين من مفاجأتنا بتقديم محتوى لائق تساءلت: عندما تنجلي الغُمّة ويختفي شبح كورونا إلى أبد الآبدين، هل سننسى المهارات التي اكتسبها أولادنا واكتسبناها معهم تباعا؟ هل سترفد التعليم المدرسي بالفائدة أم سنعود لانقطاع جديد عن كل هذه الخبرات، هل سنعود لنعصب أعيننا بالتعليم التقليدي مجددا!!