نوافذ :مجبولون على البقاء .. أكثر

23 يوليو 2021
23 يوليو 2021

أحمد بن سالم الفلاحي

[email protected]

من طبائعنا كبشر أن نرى في امتداد الحياة ذلك الأمل في البقاء والاستمرار، ويندر منا من لا يرى غير ذلك، حتى ولو كان منغمسا كل جسده في وحل من الآلام، والمصائب والأحقاد حيث لا تزال النظرة مشدودة إلى ذلك النور في آخر النفق، إنها الفطرة الإنسانية، ولذلك تحتدم المعارك بين بني البشر، وآخرين من جلدته، وبين بني البشر وبين أنفسهم حيث يعيشون معترك الذات الواهبة نفسها للحياة، وتأتي الأوطان بقدسية الدفاع عنها لتحل في أولوية قصوى لبذل النفوس لأجلها، فـ"للأوطان دين مستحق" لا يمكن التغاضي عنه، ولا يسقط مع التقادم، بل يظل استحقاقا أزليا؛ حيث تسلم الأنفس رقبتها طائعة مستبشرة.

تختزن الذاكرة الجمعية، كما هي الفردية صيرورة البقاء والاستمرار، ومن هنا تأتي المكابدة، والمجازفة، وحتى ولو كلفها ذلك دفع أنفسها مقابل ذلك البقاء؛ لأن الصورة دائما تذهب إلى البقاء، بغض النظر عما يجلبه هذا البقاء من دفع ثمن غال، وخاصة عندما تجود النفس بذاتها، كما هو قول الشاعر: "موت النفوس حياتها إن شئت أن تحيا فمت" ولعل المعاني السامية التي تذهب إلى ثيمة البقاء ليس فقط ذلك الدفع المادي المباشر للبقاء، لأن النفس عندما تجود بنفسها فإنها قد تهلك، ولا يمكن أن يعوضها معوض، وكم رأينا من مواقف يقدم فيه البعض أنفسهم رخيصة لأجل إنقاذ آخر، ولكن المعنى يذهب أكثر إلى الفدية المقدمة عن النفس، كحال الصدقة، وبذل المال في وجوه الخير، فذلك هو البقاء الحقيقي للأنفس التي تحلم لأن تكون في يوم ما، كحال أخرى تعيش حياتها الحقيقية وأن تستمر، ومجالات ذلك كثيرة وعديدة، لا تقتصر على شيء محدد، بقدر ما يتسع الأفق لهذا البذل، ولكم تسعد النفوس عندما ترى أن هناك أنفسا بقيت، وواصلت مسيرة الحياة، لأن هناك من أنقذها من براثن الهلاك المتعددة، فالحياة في تجريديتها الصلفة قاسية، وممتحنة للذوات، ولا يستطيع العيش فيها من لا تكون له تلك الأنفس الواهبة نفسها لحياة الآخرين، والمعنى هنا لا يتموضع حول نسيان النفس ذاتها في خاصيتها، فذلك مقدم على أي واجب آخر، ولكن عندما يستكمل هذا الواجب الذاتي الخالص، يستلزم الأمر النظر في من يحلم لأن يعيش كما يعيش الآخرون.

صيرورة البقاء هنا تتجاوز الجانب الفطري الموسوم به كل نفس حية، فالحيوان هو الآخر يتوق إلى البقاء، كما هو حال الإنسان، ولكن الفرق بين الاثنين: أن الحيوان يحقق ذلك من خلال الغريزة، ويأتي تلبية متطلبات الغريزة في المقام الأول، فبعد أن يلبي غريزة الجوع على سبيل المثال يمكن أن يقاسم الآخرين المشتركين عنده من القطيع، وليس قبل، وإن شاهدنا بعض المواقف التي تشذ عن هذه القاعدة، حيث نرى حيوانا ينقذ حيوانا آخر في مواقف صادمة بالنسبة لنا، وأما الإنسان فقد كرمه الله بالعقل وبالعاطفة "الرحمة" فبالأولى "العقل" يدرك (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) – جزء من الآية (32) من سورة المائدة – وبالثانية "العاطفة" يدرك أن هناك نداء ربانيا متكررا (يا أيها الناس ...).