نوافذ :بديهيات التعايش.. المسكوت عنها

16 يوليو 2021
16 يوليو 2021

تتردد على الذاكرة؛ بصورة دائمة؛ مقولة: «منشد الحي لايطرب» لعل في عدم تطريبه هو كثرة المعايشة، أو التكرار، حيث يصبح من المألوفات النمطية عند أهل الحي، ولكن المعنى يأخذ منحى آخر عند النظر في هذه المسألة «البديهيات» فهي تسترق الكثير من نوازعنا الداخلية، فتميتها على اعتبار أن هذه مسألة «بديهية» لا تحتاج الكثير من الاهتمام، والكثير من المتابعة، مع أن نتائج هذه البديهيات في كثير من الأحيان كارثية، وعندما ينتبه لها الناس، يكون الأمر خارج السيطرة، وتتناسل معظم النعم على الإنسان ضمن هذه البديهيات في حياته اليومية فلا يحس بقيمتها، وبالتالي فلا يعير لها اهتماما مميزا؛ على الأقل؛ إن لم يكن مطلقا، فإذا سلبت منه نعمة «وَلْوَلَ» واستنجد، وعلا صراخه، وتذمره، وشكواه، فالصحة- على سبيل المثال- واحدة من هذه البديهيات في حياتنا اليومية، ولذلك نستنكر على أجسامنا حالة المرض المفاجأة، لإدماننا على الصحة، وما يقاس على الصحة، يقاس على جميع الثنائيات في حياتنا (الفقر/ الغنى)، (القوة/ الضعف)، (الشباب/ الهرم)، (العمل/ الفراغ).

تأتي الدهشة أول مرحلة من مراحل اكتشاف البديهيات، والدهشة؛ غالبا؛ حالة صادمة، قد تكتشفها بنفسك، وقد يصدمك بها آخر، وعندها يتولد لديك يقين سريع بأن اكتشافك له أهميته، أو ما أثاره أمامك الآخر هو فعلا يستحق الاهتمام، وأن هناك غلافا مبطنا حول ذات المكتشف، غربه عنك وعن غيرك عن معرفة أهميته، وحقيقته، فعندما يزورك فلان من الناس، قد يلفت نظرك إلى شيء ما في الطريق إلى منزلك، أو حتى في منزلك، أو في مزرعتك، فتجد نفسك محرجا وكأنك للتو تحل ضيفا- كصاحبك- على المكان، فتكتشف ما لم تلحظه طوال سني وجودك في هذا المكان، فتصاب بالدهشة، وبحيرة السؤال عن غربتك للمكان، وقد يحدث ذات الموقف عندك عندما تزور فلان من الناس في منزله، أو قريته، أو حتى مرورك الدائم في طريق ما من طرقات المدينة التي تعيش فيها، فقد يحصل نفس الموقف مع مرافق لك، يشير إلى شيء ما على قارعة الطريق، فإلى أي حد تغرب فينا ألفة المكان عن الانتباه إلى أشياء مهمة، وقد ينقلنا اكتشافها من حالة إلى أخرى، لم تكن حاضرة في الوجدان؟

هذه الألفة «البديهية» خطيرة جدا، لأنها تولد صورا نمطية عن أشياء كثيرة من حولنا، فالتصرفات السيئة من فلان من الناس في مرحلة من مراحله، تتحول إلى صورة نمطية «بديهية» تتخزن في العقل اللا وعي لدى معظم الذين يتعاملون معه، فإذا حدث تحول إيجابي في سلوكه يحوله من حالة العسر إلى حالة اليسر، فلن يقتنع العقل اللاوعي عند أغلب هؤلاء الناس، وسيظل هذا الإنسان موسوما طوال حياته بسلوكياته السيئة؛ فلان كان كذا، وكان كذا «ما عليك منه؛ سحابة صيف وسيعود» وهكذا تسترسل الصور النمطية عنه في الذاكرة الجمعية لدى المتلقين، وخطورة ردة الفعل هذه المتموضعة على مجموعة الصور النمطية قد تعيد هذا الإنسان الـ «تائب» عن فعل المعصية؛ إلى مربعه الأول من جديد، وقد تكون العودة بمستويات مضاعفة، فترميه في هلاك ليس له نهاية، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد تتضاعف هذه الصور على مستوى المنجز الوطني، حيث يظل دائما في ميزان التقييم الخاسر، من قبل كثير من المواطنين، حتى لو تضاعف هذا المنجز، وحقق مستويات عالية من الكفاءة والتحقق، تظل نظرة الكثيرين تجاه من في أيديهم المسؤولية أنهم ليسوا أكفاء، وغير مخلصين، ولا بد من الإتيان بآخرين أكثر كفاءة، وأكثر إخلاصا، وهذه من الإشكاليات الحساسة- التي أصلتها بديهيات التعايش- في المشروع التنموي، كما هي في المشروع الإنساني؛ على حد سواء.