نوافذ : النشأة الأولى..

15 يوليو 2022
15 يوليو 2022

shialoom@gmail.com

في أغلب التقييمات التي تتم على السلوكيات خاصة، تستحضر النشأة الأولى لهذا الفرد أو ذاك، ويتغاضى كثيرًا عن مجموعة من المؤثرات الخارجية، ومجموعة المكتسبات الفردية من مصادر مختلفة، حيث تظل «النشأة الأولى» البعبع الذي لا يمكن غض الطرف عنه، وفي ذلك تأكيد وتأصيل للمعنى «إنما المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه»، حيث يظل أسير هذين الأصغرين، مهما امتد به العمر، ويكتسب من الحياة ما اكتسب، وهذا التقييم يحتاج إلى كثير من المراجعة؛ لأن قانون الحياة الإنسانية يقول غير ذلك، حيث ينظر إلى مجموعة المؤثرات التي تضغط على الفرد سواء من محيطه القريب، أو البعيد لها دور كبير في تشكيل شخصيته، وفي استقلالية رأيه ومواقفه، ولذلك عندما يربط بهذه الثوابت؛ كأنه يلغى عنده كل المحفزات المعنوية التي تنقله من حالة البكر «الفطرة» إلى حالة «التصنيع» فنتائج المكتسبات ومجموعة التفاعلات التي يبديها الفرد في مختلف تعاطيه مع الآخر، هي مادة مصنعة بعد أن مرت على مجموعة من القناعات والمواقف التي عند كل فرد منا، ومن اليقين الثابت أنه لا يوجد أي فرد لم تؤثر فيه مجموعة المكتسبات التي يتعرض لها، فهو في النهاية ليس قالبًا صلبًا من الحديد أو الأسمنت، وإنما هو أقر إلى مفهوم كرة الثلج التي تتدحرج فتلتصق بها حبات البرد، فتعمل على تضخيمها واتساع رقعتها، وبالتالي زيادة وزنها المادي، ولكن الإنسان تكون زيادة مكتسباته في هذه الحياة، هي مجموعة المواقف التي يتخذها والمعبرة غالبًا؛ عن كم هائل من الخبرات، والتجارب التي مر بها، وأكسبته الكثير من الاستحكامات العاطفية، والقدرة على التحكم في مشاعره وعواطفه، والقدرة على استنباط الأحكام، والتفريق بين الخطأ والصواب.

لذلك فالمعنى الذي يشير إليه الحكيم أبو العلاء المعري في قوله:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

لا يمكن أن يقبل بطلاقة المعنى الظاهر في البيت، حيث تدخل هنا مؤثرات كثيرة تنقله من حالته الفطرية هذه التي يشير إليه المعري إلى مرحلة الإنتاج المصنع، وفي الحديث الشريف « فأبواه يهودانه أو ينصرانه.. الخ » ما يؤكد على هذه النظرة أو التقييم، ويبقى من الصعوبة جدًا التحكم في عواطف الإنسان ومشاعره للبقاء على ما هي عليه، ولذلك يفترض أن لا يصاب البعض بالدهشة، أو الانفعال، أو اتخاذ مواقف معادية من شخص كان كما يعرفه الجميع، وأصبح أو أمسى في حالة أخرى ينكرها الجميع أو العكس؛ لأن في ذلك إسقاط لجميع المكتسبات التي اكتسبها هذا الفرد الذي نظر إليه في حالته الحالية على أن التغيير الذي تلبسه، فنقله من حالته الفطرية على أن هذا التغيير يعد مسالة خطيرة ومعادية، ويجب أن يتخذ منه موقف حازم.

تحظر النفس البشرية بصورة دائمة بحمولتها الاجتماعية، ولذلك فيه تقلق من النظر إلى أية تغير يحصل في فرد ما؛ لأنها ترى فيه امتداد لهذه الحمولة الاجتماعية، وهذه من الفطرة السليمة أيضًا، ولكن مع هذا جيد لو تعطى النفس البشرية شيئًا من الترقي في اتخاذ القرار، ولا تكون هذه الحمولة متحكمة في كل مفاصل هذه النفس؛ لأن في ذلك خروج عن الفطرة وهي المكتسب.