نوافذ : المبتدأ مرفوع

29 أبريل 2022
29 أبريل 2022

shialoom@gmail.com

في اللغة - كما يؤكد المتخصصون - أن لا خلاف على رفع المبتدأ؛ سواء أكان هذا المبتدأ ظاهرا أو مخفيا؛ أكان متقدما على الخبر، أو متأخرا عنه، فمكانة الرفع والابتداء حق أصيل له، لا ينازع عليه منازع، كما هي ثوابت الأشياء، لا تقبل التنازع والاختلاف، ولا تقبل التقسيم والاستثناء، وكما هو حال المبتدأ في هذا التأصيل الذي شرفته به اللغة، كذا حال حياتنا الإنسانية بها الكثير من الثوابت؛ وهي الأخرى التي لا تقبل التغيير، ولا التقسيم، ولا الاستثناء، حيث تحكمها القيم الثابتة، فالمعروف قيمة ثابتة في حياتنا الإنسانية، نهديه للآخر؛ يفترض؛ بلا مقابل، ومتى حضر المقابل في الذاكرة، انتفت صفة المعروف كقيمة إنسانية، وبالتالي فالمعروف في ابتدائيته الأولى؛ حيث النشأة، لا يمكن أن يؤول إلى أنصاف الحلول، فيقبل مرة كمعروف خالص، بدون مقابل، ويقبل مرة كمعروف قابل للمقابل، فقبوله الأخير يخرجه من دائرة المعروف.

ينظر إلى ابتدائية الأشياء على أنها ثوابت، وهذا الابتداء يرفعها إلى مستوى الحاضنة، أو المرجع، وفي حياتنا؛ لا يمكن لأي صورة أو معنى، أو فعل لا يكون له مرجع، فليس هناك منبت من فراغ، ولذلك فالمراجع هامات رفيعة، سواء للعودة إليها لتأصيل استفراغاتها من النتائج، حسنها وسيئها على حد سواء، أو لتعزيز وجود ما قائم على أرضية الواقع، فالدين مثلا ليس حدثا استثنائيا قابل للتشظي فقبول بعضه، ورفض بعضه الآخر، ولا يتيح اختيارات قبوله أو رفضه وفق مزاجية معينة، فهو مكتمل بجميع عناصره من حيث الابتداء وهو من عند الله عز وجل، (رفيع الدرجات ذو العرش) - الآية (15) من سورة غافر - ومن ثم من مجموعة من القناعات، ومن الأدلة، ومن الأمثال، ومن الصور البلاغية، وبعناصره هذه يبقى في حقيقته المرجع المطلق لكل التفاعلات التي تحدث من بني البشر، والتي يسعى البشر أنفسهم إلى تأصيلها من خلاله، للاطمئنان على سلامة مقصد الفعل من عدمه، وما ينطبق على الدين ينطبق على أسس كثيرة في حياة البشر، والمتمثلة في كثير من القيم الإنسانية، وإن نظر إلى القيم على أنها قابلة للتحول من قيمة رفعها أصل المنشأ، إلى قيمة مستنسخة أخرى بفعل أدوات التطور في كل عصر على حدة، وبفعل سعي الإنسان ذاته إلى التعبير عن قناعاته الشخصية، وما هو عليه في حاضره، ولكن حتى في ظل هذه الصورة «الدراماتيكية» التي تحصل تظل القيمة الأصل هي المرجع أو الحاضنة، ولذلك قيل: «الفضيلة بين طرفين كلاهما رذيلة» فالكرم؛ على سبيل المثال، وهو قيمة إنسانية سامية؛ الإسراف فيه رذيلة، والبخل فيه رذيلة، وتظل القيمة الرفيعة في مبتدئه الأصل «الكرم» الذي يحاذر صاحبه من خلاله إلى عدم الوقوع في مأزق أحد الرذيلتين.

يقال لك: «رفيع القدر؛ أو المكانة» فهذا النوع من التقييم لم يأت من فراغ، بل لا بد أن تكون له مرجعية ما رفعته هذه المكانة، عن آخرين يتقاسمون معه نفس الظروف الاجتماعية من التواد، والتفاعل، والالتفاف، والتعاون، والتوافق، ولكن مع ذلك ظل هناك تميز؛ (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) - من الآية (165) من سورة الأنعام - وإن ظل هذا التميز امتحانا لن يكون يسيرا.