نوافذ : الزمن يهرم
يبدو أن العلاقة القائمة بين الإنسان المتجسد من اللحم والعظم، وبين الزمن الدافع به إلى الاستمرار في الحركة أو التوقف عنها هي علاقة عضوية بامتياز، والدليل أنه لا يمكن أن يتمثل الأول "الإنسان" دون الآخر "الزمن" والعكس صحيح، وبالتالي فهذه الصورة المزدوجة لكلا الطرفين؛ تذهب إلى توثيق الحقيقة التالية: وهي بما أن الجسم معرض للهرم، فكذلك الزمن هو الآخر معرض لذات النتيجة، فبعد أن يؤدي هذه الزمن المستقطع في حيواتنا دوره – بإذن الله – يتلاشى هو الآخر، ويسلم الراية لزمن آخر قادم بطقوسه، وشخوص، ولذلك يقال: "لكل زمن دولة ورجال".
عندما تولج إلى الحارات القديمة، ترى كم هو الزمن فعَّل دوره عندما كان نظرا بالشخوص التي تلبسته في فترات الفتوة والقوة والشباب؛ وفي المقابل؛ ترى كم هي الحالة الهرمة لذات الزمن التي آلت بكل شيء؛ إما بزوال، وإما بتلاشي الأشياء وتراجعها حتى غدت كأنها أشباح، فهل أنقذها الزمن المتجدد الذي أعقب أزمانها التي تسابقت فيه نحو النضارة والفتوة؟ أبدا، بل ظلت رهينة زمنها الذي هرم معها، وبقي معها حتى زوال آخر طوبة في جسد بنيانها المتداعي على نفسه، وبعد أن ودعتها آخر الأنفس التي بلغت من العمر عتيا.
وكما ينطبق الأمر على كل شيء مادي، وفق هذه الصورة المتداعية للحارات القديمة، وغيرها، ينطبق ذات الأمر على الإنسان حيث تمر عليه سنة الزمن، فمنذ طفولته الأولى، وحتى نهاية رحلته في الحياة، هناك زمن يتقصى كل تفاصيل حياته اليومية، فلا تكاد تنفك هذه العلاقة بين الطرفين إطلاقا، وبقدر هذه الحيوية والفتوة المترسمة على جميع تفاصيل حياة الفرد اليومية؛ هناك قدر مماثل لمشروع الزمن في كل هذه المناخات الإنسانية، استحضر الإنسان ذلك أو غيب نفسه عنه بفعل مشاغله اليومية، حيث ينتبه؛ كما هي العادة في اللحظات الأخيرة، ويرى كم هي خسارته من هذه الزمن، وكما يقول أبو الطيب المتنبي – رحمه الله -:
"أتَى الزمانَ بنوهُ في شبيبته: فسَرَّهُمْ وأتيناهُ على هَرَمِ". (حيث انتهى كل شيء)
فمن أتى زمنه على آخر محطة له "على هرم" فما بقي عليه سوى أن يلملم أسباله، لأن الحقيقة كمنت في " أتَى الزمانَ بنوهُ في شبيبته" ولم يأتوا "على هرم" فالمسألة؛ كما نعرفها؛ ولا ندركها أحيانا؛ لها عمر افتراضي، وكل مخلوق في هذه الحياة مرتهن بعمره "زمنه" هو فقط، وهذا الارتهان مرتبط بكل أنشطة حياته اليومية، سواء على مستواه الشخصي، أو مستواه العام، ومعنى هذا أن من يدخل نفسه في معترك العام خاسر؛ بكل تأكيد؛ إن لم يكن هو والزمن متوافقين عمرا، ولذلك يبقى من الأخطاء الكبيرة التي ترتكب في حق الوظيفة؛ مثلا؛ عندما يكلف فرد هرم ليدير مجموعة موظفين في أعمار أحفاده، وليس في أعمار أولاده حتى، وما ينطبق على الوظيفة، ينطبق على أية مسؤولية أخرى كمسؤوليات الـ "جاهات" أو مؤسسة الأسرة، مثلا، فمن هرم زمنه، ليس له إلا أن يرضى بزاوية هادئة يحاور فيها نفسه: يعاتبها وتعاتبه، يواسيها وتواسيه، لعلهما يغفر للآخر خطاياه.
