نوافذ : الذين اسْتَضْعَفوا..

19 أغسطس 2022
19 أغسطس 2022

[email protected]

يتسلل في الغالب شعور خفي عند البعض من الناس، بأنهم ضعفاء، وأنهم مأتمرون، وأنهم مصوبتهم عليهم السهام، وأنهم مقصودون دون غيرهم، فقط لأنهم "لا يملكون ما يملكه الآخرون" وأنهم "لا يتبوؤن؛ ما يتبوأ أقرانهم الآخرون" وأنهم "لا يحظون ما يحظى به الآخرون" وأنهم "لم يصلوا إلى ما وصل إليه الآخرون" وكأنهم محرومون، وكأنهم من فضل الله مبعدون، وفوق ذلك كله يربطون حالهم بظروف الزمن الحاضر، وأنهم لو ولدوا في زمن غير هذا الزمن لكان لهم صوت، وكانت لهم وجاهة، وكان لهم مرتقى، ويحتدم هذا الصراع النفسي أكثر عند من كان لآبائهم الذين سبقوهم شيئا من هذا الذي يفتقدونه، وهذه كلها توهمات نفسية، وقياسات غير واقعية، ومقاربات غير منطقية، وتجاوزات مبالغ فيها في فهم الأحوال والظروف، مع أن المنهج الإنساني "الفطرة" غير ذلك تماما، والمسألة لا تخرج عن كونها تحتاج إلى الخروج من هذه الشرنقة الضعيفة جدا، والتي تحتاج إلى شيء من المبادرة لفك هذا الغلاف الضعيف، والخروج إلى الحياة، والنظر إلى اتساع الرؤية التي لا تحدها حدود التجاذبات الخاصة، وما كان مقتل الإنسان إلا في هذه التجاذبات الخاصة، وإلا لغدت الحياة مساحة غير ممتدة من التفاؤل، والرضا، ولعل في هذا الاحتقان سر من أسرار الوجود الذي وضعه الله عند عباده.

" الذين استضعفوا.." وهنا بفتح التاء، وتسكين الضاد، وفتح العين، وهم الذين استضعفوا أنفسهم؛ أي أسقطوها في مستنقع الضعف؛ ولم يولوها حقها من الحرية والانطلاق والنظر إلى الأمام بنظرة التفاؤل، وأنها القادرة على تخطي مجمل التموضعات الذاهبة إلى تكريس الضعف، حيث غاب عنهم اليقين بأنه لا يمكن للإنسان أن يحقق السواسية مع غيره؛ مهما كان هذا الغير قريبا منه، ولو كان أخاه؛ الذي يتقاسم معها الأبوة من الأب والأم، وهذه من حكمة الله في خلقه (فلا يزالون مختلفين) والمشكلة هنا أكثر أن الأغلب يرى الحق عنده، والصواب عنده، والتميز فيه، والصدق فيه، والأمانة عنده، ويقيس مواقف الآخرين بخلاف ذلك، ولو صدقوا، ولو تميزوا، ولو تجردوا، ولو وقفوا على الحياد، وهذه إشكالية نفسية، أكثر منها سلوكية، وقد ينظر إليها؛ أيضا؛ على أنها ثقافة مكتسبة بفعل تولد القناعات عند البعض بهذه الصورة، وتصدير هذه القناعات إلى العامة من الناس، مع أن في هذا الأمر؛ ووفق هذه الصورة؛ قد ينظر إلى ذلك من زاوية أخرى، وهي أن في ذلك تهرب من تحمل المسؤولية، فمن اليسير أن يلقي أحدنا بكامل العبء على الآخرين وأنهم السبب في فشله عن تحقيق ما يود الوصول إليه، دون أن يتعب هو نفسه بشيء من الجهد في سبيل تحقيق ذلك، ولعل مقاربة هذا الواقع يتجلى أكثر عندما يتلاوم أصحاب النار على المصير البئيس الذي آلوا إليه حيث يلوم الضعفاء الذين استكبروا من أنهم أوصلوهم إلى هذا المآل المخزي (... فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا؛ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء...) بينما كان الواقع في الحياة الدنيا؛ أن ليس هناك تسلط قهري يجبر فرد ما أن يكون رهين إشارة لفرد آخر، مخالفا لقناعاته ومواقفه الشخصية، إلا برضا وطواعية مطلقة.