نشأة المسرحية في فلسطين «3»

02 يناير 2024
02 يناير 2024

«غزَّة في سِفْر الرَّحالةِ أكبرُ منْ

كّلِّ الدُّنيا

فَلِماذا يَجتمِعُ عليْها الشَّرُّ؟

وَكُلُّ حُثالاتِ الأشرارِ،

لماذا يُرْهِقُها الظُّلْمُ وَيُوجِعُها الفَقْرُ؟

وَتَشْقى في الحَرِّ وَفي القَرِّ،

وَلَكِنْ لا تَحْني الهامَةَ

وَيَظَلُّ الغَزِيُّ شَديدَ الباسْ؟

وَيَظَلُّ الغَزِيُّ إِذا ما اشْتَدَّ

ظَلامُ الكَوْنِ وَظُلْمُ ذَوي القُربى

يَبْحَثُ عنْ شَمْسٍ تائهةٍ

مَرْفوعَ الرّاسْ» إبراهيم السعافين- ديوان شَمْسٌ تَائِهةٌ.

(1)

يُّعد كتاب (نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين حتى عام 1948م، للدكتور إبراهيم السعافين، (167) صفحة، الذي صدرت طبعته الأولى في الأردن عن دار الفكر للنشر والتوزيع في عام 1985م أحد الكتب التأريخية المهمة للتعرّف على تاريخ الدراما ونشأتها في فلسطين. أواصل في هذا الجزء الأخير، تناول العناصر الفنية للمسرحيات أو التمثيليات المتبقية، وهما عنصرَا الشخصيات، واللغة والحوار.

اهتم مؤلف الكتاب بتحليل بعض النماذج رابطا معالجة المسرحيات بوحدة واضحة، منطلقا من بديهية منهجية محددة، أنه «إذا كانت المسرحية قد اهتمت بعرض القضايا التاريخية التي تخدم الواقع الراهن، فإنها اهتمت بالأفكار والأحداث معا - ص148»، وتجدر الإشارة، إلى أن الفترة الزمنية التي تناولها المؤلف تقف عند عام 1948م، وأن الكتّاب المسرحيين الذين قد أشرتُ إليهم في الجزأين السابقين، تنتمي نصوصهم إلى مرحلة يغلب عليها البساطة ومعطيات النشأة، واستراتيجية التأثر بالتراث.

يتابع في الفقرة نفسها: «وهذا الاهتمام -يقصد بالأفكار والأحداث- لا بد أن ينعكس على الشخصيات بصورة مختلفة. وإذا كانت الشخصيات قد ارتبطت بالأفكار من جهة وبالأحداث من جهة أخرى، فإن هذا الارتباط لم يعطها قدرة على الحياة والتلقائية والنمو- ص148».

إن الشخصية المسرحية باعتماد النقاد مكون صعب للغاية، فخطوط الشخصية الرئيسة لا بد ولها أبعاد تعرّف بها، ولا تكون إلا بها، ومن دونها يصعب الكلام أو النقاش في المسرح التقليدي عن مكون الشخصية الفنية. فإذا لم يعرف المؤلف المسرحي أبعاد شخصياته الفسيولوجية والاجتماعية والنفسية، سيخسر ركنًا مهما من أركان بناء مسرحيته.

كنتُ قد أشرت في الجزأين السابقين إلى أن عناوين مسرحيات تلك الفترة في فلسطين، حيث اهتم مؤلفوها بتخصيص عناوين المسرحيات بأسماء شخصيات تاريخية معروفة. والمتأمل للمسرحيات التي اتخذت من التاريخ موضوعا لها يجدها قيدت شخصياتها بالروايات التاريخية المدونة في كتب الأدب والتاريخ.

ويجب في كل مسرحية شخصياتها مستلهمة من التاريخ، أن يعي مؤلفوها ببناء شخصيات «نامية متطورة تتيح للصراع أن يشتّد، وللمواقف أن تتناقض، دون ثبات في الشخصيات أو المواقف- ص149».

ففي مسرحية «في ذمة العرب» لمؤلفها (نجيب نصار) يرى الدكتور السعافين أن مؤلفها لم يحاول التعمق في شخصية الملك النعمان، فلم يولِ علاقته بعديِ بن زيد عناية تحتاجها الشخصية، لا سيما، وأنه كشخصية مساعدة سيقدم له يد العون ليوّليه كسرى أمر العراق.

واللافت للانتباه أن المؤلف نفسه، عندما لجأ إلى استلهام التاريخ لم يستفد من بعض بذور العُقد النفسية في شخصية النعمان، فاكتفى بالرواية التاريخية دون معالجتها حسب مقتضيات الخيال الفني.

تجدر الإشارة في هذا السياق، أن على المؤلفين الذين يستلهمون التراث البعيد أو القريب، أو يتجهون إلى التاريخ البعيد، الانتباه إلى مسألة غاية في الأهمية، وسؤال لا يجب تجاوزه: أما الغاية ففي السؤال التالي: ماذا أريد أن أقول من وراء هذه الشخصية إذا لم أتجرأ عليها؟ وأما السؤال فيتجسد فيما إذا قلبت تاريخ الشخصية، وسجلت موقفا منها، فبنيت لها سرًا دفينا، أو وضعت من كحة منديل تحمله في يدها، هل كانت الدراما ستنهار بكليتها؟

إن تناول الشخصيات التاريخية في الفن مسألة حساسة جدا، لكن على المؤلف الانتباه أن تطورها يجب أن يكون من داخلها، وليس من ردود فعلها على أحداث تصدر من الخارج.

حول الجزئية السابقة يقول السعافين عن مسرحية «شمم العرب» لمؤلفها (نجيب نصار):»وقد اهتمت مسرحية شمم العرب بالمواقف، وجعلت الأحداث تبعا لها، وسلبت الشخصيات القدرة على التصرف بعيدا عن دائرة القيم العربية المتوارثة، فربطت الصراع الخارجي في نفوس الشخصيات بما ينشأ عن هذه القيم من ردود أفعال... -ص150»

كما يتناول إبراهيم السعافين بعض شخصيات المسرح الشعري، ونقتطع قوله عن مسرحية (امرؤ القيس بن حجر) للمؤلف (محمد حسن علاء الدين) منتخبا فيها مشهد مصرع كليب قائلا إنه: «قد استطاع أن يخطو خطوة أفضل في تصوير الشخصيات، فقدم لنا «كليبا» في صورة الجبار الطاغية، حتى أوغر صدورنا عليه، وقدمه في مشهد قتله إنسانا عاديا يفكر في طفله القادم، وفي زوجته، بل في جثته، فإن المؤلف استطاع أن يهب شخصياته الحيوية والحركة -ص152».

أما عنصر اللغة والحوار فأهميته لا تقل عن العناصر السابقة (البناء الفني، والحبكة والصراع، والشخصيات)، إلا أن هذا العنصر تنبع سلطته في استناد المسرحية إليه استنادا كليا، ما عدا أطروحات نصوص المسرح الطليعي وما جاء بعده من اتجاهات ومذاهب.

ويصل السعافين إلى نتيجة بشأن الكتّاب الذين تباينوا -في هذه الفترة- في طريقة توظيفهم للغة، ويجد أنهم جميعا لم يصلوا إلى التصور الفني المطلوب تجاه دور اللغة في الحوار خاصة، وفي عناصر المسرحية بوجه عام -ص153.

وللتدليل على ذلك، يقف عند مقدمة مسرحية (وفود النعمان على كسرى أنو شروان) ونظرة مؤلفها إلى المشكلة من جانب الشكل اللغوي الذي كتب على لسان إحدى شخصياته هذا الحوار: «أن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، ومنعت درتها... -ص153»، وغيرها من الشواهد.

إن اجتهاد مؤلف المسرحية في رصف العبارات الفخمة، والألفاظ البدوية، والجمل المسجوعة، يوضح الرؤية التي انطلق منها مؤلف المسرحية، الذي كتب في المقدمة قائلا: «... فترددتُ بادئ الأمر لأني أعرف أنه ليس من السهل إلباس المعاني الحاضرة، حلة بدوية جاهلية... - ص153».

يضطلع بناء الشخصية بمعرفة أنماطها، والكيفية التي تظهر عليها الشخصية يتمثّل ظاهريا عن طريق الحوار، ثم الولوج به للكشف عما يعتمل في داخلها من مواقف حدثت معها في طفولتها، وساهمت في تحوّلها حسب مواقف النص الدرامي. فإذا أخل المؤلف المسرحي بهذا الرُّكن، انعكس ذلك على تفاعلها ونموها. ويُعد الحوار المسرحي الناجح إحدى المهام التي على المؤلف الاعتناء به. يرى إبراهيم السعافين أن مؤلف المسرحية (وفود النعمان على كسرى أنو شروان) لم يهتم اهتماما جيدا بلغة حوار شخصياته، فظهر على لسانها موقف المؤلف الذي يقسر عليه الشخصيات جميعا.

كما توقف صاحب كتاب (نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين حتى عام 1948م) عند مسرحية (في ذمة العرب) لمؤلفها (نجيب نصار) وأولاها تحليلا كما فعل مع سابقتها (وفود النعمان على كسرى أنو شروان)، ولكنه إلى حد ما، وجد فيها عناية من مؤلفها باستخدام لغة تقترب من لغة الكتابة في أوائل هذا القرن، وتُترجم عما يريده المؤلف، ودلل على ذلك بحوار شخصية (عدي بن زيد) إلى الجلاد، حيث يقول: «إني أشفق عليكم أيها الشرط والجنود فأنتم آلات صماء، يستخدمها الملوك وأولو الأمر تارة للخير، وأخرى للشر. كثيرا ما تكونون بيد الظالمين القوة الغاشمة، التي تقتل كل شعور بالحق... -154». ويلتفتُ أيضا، إلى قدرة نجيب نصار في مسرحية (شمم العرب) في استخدامه للعبارات التي تناسب الشخصيات في سياقها الدرامي المناسب، وكذلك، قدرة الحوار أحيانا على تصوير معاناة الشخصية.

كنا قد أشرنا في الجزء الأول (نشأة المسرحية في فلسطين) إلى أن الموضوعات التي تناولها المؤلفون المسرحيون الفلسطينيون في فلسطين حتى عام 1948م استمدوها من مصادر مختلفة؛ فمنهم من استلهم من التاريخ البعيد أو القريب، أو من التاريخ المحلي أو القومي، ومنهم من اتصلت مسرحياته بتناول القضايا الاجتماعية. وفي الجزء الثاني استشهدنا باسم المؤلفة (حنة شاهين، التي لها مسرحية بعنوان (جزاء الفضيلة)، وقلنا إن المؤلفة غلب على مسرحياتها ما غلب على الكتّاب جميعهم؛ الذين سعوا إلى الخوض في قضايا المجتمع، وأن أسلوب المسرحيات اتسم «بسذاجة المعالجة أحيانا، وسطحية الرؤية أحيانا أخرى»، وفي هذا الجزء الأخير من عرضنا للكتاب، يولي السعافين وقفة لهذه المسرحية، التي تصور كاتبتها «المتاعب التي يلقاها الفضلاء المحسنون من الأوغاد الأشرار، غير أن العاقبة الحسنة تكون من نصيب الأخيار، بينما يلقى المسيئون جزاء إساءتهم عاقبة وخيمة. ويجد السعافين أن سذاجة معالجة الشخصيات أثرت في لغتها وحواراتها، بالرغم من محاولة المسرحية اختيار لغة تتفق وطبيعة الشخصيات، وتتسق مع لغة الكتابة المعاصرة، «غير أنها لم تتنوع، لأن مستوى الشخصيات يحدد مستويات اللغة. وإذا كانت الشخصيات محكومة بفكرة المؤلفة، فإن هذه اللغة ستبقى في مستوى واحد لا تتعداه... -ص156».

ختاما...

أُسجل في ختام هذا العرض المقتضب لكتاب (نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين حتى عام 1948م)، لمؤلفه الدكتور إبراهيم السعافين، البالغ عدد صفحاته (167) صفحة، على أهمية التعرّف على جزء نجهله كثيرا عن نشأة المسرح في فلسطين، وأيّ كتابة عنه اليوم في ظل الأحداث السياسية الملتهبة في «غزة العزة»، هو شكل من أشكال بناء الذاكرة -ذاكرتنا- الثقافية والإنسانية. وإذا كانت المهمة شاقة وكبيرة، لكن بها من الإقبال عليها مغامرة تستوجب الخوض في غمارها، كي لا ننسى فلسطين.