نزيف الإنسانية لأجل قناة بن غوريون

13 نوفمبر 2023
13 نوفمبر 2023

لا أدري إن كان يشاركني أحد الاكتئاب الحاد هذه الأيام، أم أن الآخرين لديهم القدرة على تخطي الآلام والتعايش معها كواقع لا مناص منه، أو لديهم حصانة ضد الأحزان، أو ربما هم مثلي لكنهم لا يعبّرون كما أعبّر بالكلمات عن ذاتي وشعوري على المجازر اليومية والإبادة والإفناء المستباح لأرواح المدنيين والأطفال والنساء في غزة، بينما نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكنا سوى متابعة آلة القتل الصهيونية على الشاشات.

تنتابنا مشاعر مختلطة من الخذلان والشعور بزيف القوانين وحقوق الإنسان وغيرها من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي حفظناها عن ظهر قلب ونادينا بها في نشاطنا الحقوقي، ثم نكتشف بأن المجتمع الدولي يمارس العنصرية بطريقة فجة، والإنسان المقصود بالحماية والحرية هو الرجل الأبيض، أما من كانوا دون ذلك فلا قيمة لهم ولا حقوق، فأية ضمائر وأية إنسانية وأية عدالة حينما تُقطع سبل الحياة عن قطاع غزة، فلا ماء ولا دواء ولا غذاء ولا أمان.

نؤمن أن تكلفة إزاحة الظلم والاحتلال باهظة؛ فالحرية والكرامة ثمنها الأرواح والدماء كطقس يُمارس منذ الخليقة وإلى الآن، وفي تاريخنا الحديث نركن إلى نضالات الشعوب التي انتزعت حريتها على أرواح شهدائها بدءًا من الجزائر ومرورا بفيتنام وجنوب إفريقيا، فتعلمنا أن كل ظلم يزول وأن الحرية ممكنة وأن نيلها يتحقق ولكن بجراح لا تُنسى.

يستثمر الكيان الصهيوني الحروب ويقتات عليها، بل ينهض سر وجوده في قلب العالم العربي على مهمة القتل والتهجير، وقد ذكرت بعض التقارير التي نستعرضها هنا الأهداف المبيّتة لتدمير غزة وشعبها؛ فمخطط تهجير الفلسطينيين من شمال غزة يهدف إلى ما هو أكبر من حماية إسرائيل أو إيجاد مناطق آمنة كما يدّعي إعلام الكيان الصهيوني، بل الهدف من وراء القصف بأطنان من المتفجرات هو لأجل شق قناة بن غوريون المزمع إقامتها بين البحر المتوسط والبحر الأحمر وتحديدا من إيلات إلى شمال غزة، وقد تحدثت العديد من التقارير الإخبارية عن ذلك المخطط وتحدث عنه النائب المصري مصطفى بكري في مجلس النواب المصري في شهر أكتوبر الماضي، قائلا إن الحرب على غزة هدفها إيجاد قناة إسرائيلية بديلة عن قناة السويس، والمقصود بها هنا قناة بن غوريون التي تتداول مواقع إخبارية الحديث عنها، فقد وردت المعلومة في مذكرة سرية أمريكية في عام 1963م (تم رفع السرية عنها عام 1996م)، أن القناة تمتد من إيلات إلى أسدود عبر خليج العقبة بطول 260 كم، وكشفت الوثيقة أيضا إمكانية استخدام التفجيرات النووية لحفر القناة الواقعة في منطقة جغرافية صعبة، ولكن احتلال إسرائيل لقطاع غزة عجل بالتفكير في قناة بين إيلات وغزة، في وقت كانت فيه إسرائيل تبحث عن مشروعات استراتيجية لضرب الاقتصاد المصري ومنها خط أنابيب النفط بين إيلات وعسقلان الذي يمر عبره النفط الإيراني إلى أوروبا أيام حكم الشاه، ونظرا لانشغال إسرائيل بحروبها في المنطقة، فلم تعد التفكير في شق القناة إلا في عام 2015م، أي بعد مرور عقد على اتفاقية أوسلو (1993) مع الفلسطينيين، واتفاقية وادي عربة للسلام مع الأردن (1994). ومن يرى سعي إسرائيل إلى تسريع التطبيع مع الدول العربية يفهم أن الهدف من الاتفاقيات هو تأمين الحماية لقناة بن غوريون، إذ كشفت الصحيفة الإسرائيلية (جيروزاليم بوست) في سنة 2015م عن تكلفة المشروع بحوالي 55 مليار دولار يمكن استردادها في غضون عشر سنوات. وحسب تقرير (Arabiya Business) على قناة اليوتيوب - والذي استقينا منه هذه المعلومات فإن إسرائيل ماضية في إنشاء سكة حديد بين إيلات وأسدود بطول 350 كم منذ 2012م بالتعاون مع الصين. وبالنظر إلى المشروعات الاقتصادية الإقليمية المعلن عنها عن ربط آسيا بأوروبا يجعلنا نتفهم المخطط الإسرائيلي، إذ يتنافس المشروعان الهندي والصيني على الوصول إلى أوروبا، فطريق الحرير الصيني يمر إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى وإيران والعراق وتركيا، أما المشروع الهندي المعروف بالممر الهندي الذي ترعاه الولايات المتحدة، فيمر بالجزيرة العربية والأراضي الفلسطينية ومنها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهو المشروع الذي يُعجّل بشق قناة بن غوريون.

ستكشف الأيام القادمة عن هذه المخططات التي تُزهَق في سبيلها الأرواح وتسحق الحياة ويُدمر فيها الإنسان، وهذا ما نراه الآن رؤية العين، لكن مع فقداننا لأكثر من أحد عشر ألف إنسان في غزة وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمفقودين، إلا أن طوفان الأقصى أعاد القضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية، ورسّخ في أذهان أطفالنا فلسطين وغزة؛ فالحرب وآثارها تُعرّفهم بحقيقة الكيان الصهيوني وشهيته للقتل، فالأطفال يتابعون ما يجري في غزة من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني المدافع عن حقه في استعادة الأراضي المحتلة منذ خمسة وسبعين عاما.

كلمة أخيرة:

الشكر كل الشكر لموقف سلطنة عمان حكومة وجماهير وإعلاما، على الوقوف الثابت في خطوط الدعم والتضامن مع الحق الفلسطيني كما كانوا دائما.