نحبكم والله نحبكم

23 أكتوبر 2023
23 أكتوبر 2023

ماذا يقول العائد من بغداد في هذه اللحظات العصيبة التي تعيشها الأمة العربية والضمائر الحية في العالم، بعد الدمار الممنهج والكُفر بالكرامة الإنسانية ومحو البشر في قطاع غزة، كل شيء يوحي بالكآبة والعجز عن فعل أي شيء سوى التفرّج على الأرواح التي تُزهق يوميا، نعم شعور مؤذٍ وقاسٍ، ولكن الأمل الذي يرافقنا ويلازمنا مهما اشتدت الصعاب وبلغت القلوب الحناجر، يُخبرنا أن هذه الأمة تبقى صامدة وواقفة، مثلما وصفها الشاعر مظفر النواب (1934-2022):

«لا تخفْ

إننا أمَّةٌ لو جهنّم صُبَّت على رأسِها واقفة

ما حنى الدهرُ قامتَها أبدًا

إنما تنحني لتُعين المقادير إن سقطت أن تقوم

تتمُّ مهمّاتها الهادفة».

رأيتُ الأمة الواقفة أثناء وجودي في العراق موطن الشاعر الراحل النواب؛ العراق التي دخلت في ثلاث حروب ضروس، وتعرّضت لأبشع أنواع الإجرام والقسوة والعذاب، والقصف بأفتك الأسلحة المحرّمة دوليا، والتفجيرات اليومية وشهوة القتل التي لا تنطفئ. كل الجرائم مُورِست على الشعب العراقي. ومع الألم والحزن، والذاكرة المثخنة بالجراح، ونُصب الموتى في قلوب ذويهم قبل شواهد قبورهم، إلا أن الشعب العراقي الجبار استطاع تجاوز كل ذلك بإصراره على الحياة والبقاء في الأرض التي علّمت البشرية التدوين.

أثناء وجودي في بغداد لامست نُبل الروح العراقية رغم قصر المدة، فعرّفتني على ملامح الحياة في بغداد، واللقاء بالإنسان العراقي الكريم الذي يُجسد كلمات أغنية «نحبكم والله نحبكم» قولا وفعلا؛ الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر زهير الدجيلي (1937- 2016) ولحّنها حميد البصري (1935-2022)

«نحبكم والله نحبكم

متعلمين نحبكم، متعودين نحبكم

حتى لا فد يوم الدنيا تراوينا فراق

حتى لا فد يوم العاشق ما يلقى أشواق

نحبكم والله، والله نحبكم»

غنّى هذه الأغنية أهم الفنانين العراقيين، منهم إلياس خضر (1938-2023) وغيره، لكني أحب سماعها بصوت فرقة الطريق العراقية التي أسّسها الشاعر زهير الدجيلي وحميد البصري وزوجته شوقية العطار، وغنّى فيها فؤاد سالم (اسمه الحقيقي فالح حسن جاسم 1945-2013) والفنانة إلهام حسن (توفيت في عدن 2001). اللافت للنظر أن أعضاء الفرقة تغرّبوا خارج العراق وتُوفي جلهم خارج وطنهم، وتُصنّف الفِرقة ضمن الفرق الملتزمة بالغناء للمقهورين والمهمشين في العالم. ومن أهم أغاني الفرقة المُغناة لفلسطين أثناء الانتفاضة أغنية (شمس الذهب)، التي تنبأت كلماتها بسقوط أسطورة الجيش الصهيوني، الذي سقطت معه أخلاق المجتمع الدولي والقانون الدولي وحقوق الإنسان بعد السابع من أكتوبر الجاري. تقول كلمات الأغنية:

«مقهور يا سلاح الغدر مقهور واليد اللي تحارب بك مقهورة

قالوا أساطين الظلم أسطورة

وسموا الجيش الغادر المحتل هم أسطورة

جاوبت غزة ما بقت أسطورة

غير الحجر بيد الطفولة الثائرة أسطورة

حطمت كل أسطورة»

لا يخفى على أحد العلم بأن الحروب المفروضة على العراق كان هدفها بالدرجة الأولى تدمير العقل العراقي وتوقيف التنمية في بلد منحته منظمة اليونسكو جائزة القضاء على الأمية في عام 1979م، بعد تقارير دولية تؤشر إلى انخفاض الأمية في العراق إلى 10%. هذا بالإضافة إلى وجود مؤسسات علمية وثقافية، وكوادر بشرية مؤهّلة، وكفاءات علمية نهضت بالعراق في كافة المجالات، أذكر منها دار المأمون للترجمة والنشر التابع لوزارة الثقافة والإعلام، فأثناء حديثي مع الصديق نعمة عبدالرزاق الذي جاء من مدينة السماوة -تبعد حوالي 400 كم عن بغداد- لاستقبالي في بغداد بينما أزورها للمرة الأولى (برفقة فرقة مزون المسرحية للمشاركة في مهرجان بغداد المسرحي الرابع)، تحدثت مع الصديق نعمة عن رواية (بيدرو بارامو) للكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917-1986)، فأخبرني بأن أول من ترجمها عن الإسبانية هو المترجم العراقي مروان إبراهيم (75 عاما) لدار المأمون التابعة حينها لوزارة الثقافة والإعلام، فاندهشت وطلبت الحصول على نسخة، فاتّصل نعمة بزميلته في الوزارة السيدة إشراق عبدالعال التي كانت مسؤولة في دار المأمون قبل انتقالها إلى دار الكُتب والوثائق، فأخبرتنا بأن الرواية طُبعت في الدار ونفدت نسخها، واقترحت عليّ البحث عن الرواية في شارع المتنبي، وبالفعل بحثت عن الرواية في المتنبي برفقة الصديق الدكتور مزاحم حسين وتحسين علي ومرتضى أحمد وابنه، فوجدت نسخة قديمة بمساعدة مزاحم أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة بغداد. بعد قراءة (بيدرو بارامو) النسخة العراقية وجدت الاختلاف الشاسع بينها وبين الترجمة الحديثة؛ فالنسخة العراقية تحتوي على حوالي (208) صفحات تتضمن مقدمة للمترجم مروان إبراهيم وتحليلا للرواية للكاتب خوسيه كارلوس غونزالس بويسكو كتبها لمقدمة الطبعة الإسبانية عن دار نشر كاتدرا. بينما الطبعة الحديثة لبيدرو بارامو تتجاوز (500) صفحة. هكذا يكشف لنا الواقع أن الحروب العبثية التي يفتعلها الجهلة تدمر البشر والحجر.

ومع كل ما مرّ به العراق من ويلات إلا أن شعور التفاؤل بمستقبل عراقي أفضل يملؤني بعد لقائي بشخصيات ثقافية وأكاديمية مثل الدكتور نوفل أبو رغيف الشاعر، والأكاديمي ووكيل وزارة الثقافة والسياحة والآثار، وأصدقاء آخرين جمعتني بهم الكلمة والمحبة، منهم الدكتور نصير غدير، والكاتب حميد قاسم، والشاعر زعيم نصار، والشاعر السوري هاني نديم، الذين فاضت ضيافتهم وكرمهم عليّ، كما جمعتني الرفقة الطيبة بكل من الكاتب المسرحي والقاص ضياء سالم الذي ذرعت معه شوارع بغداد وأزقتها، وكذلك الكاتب السينمائي كاظم السلوم، والصديق وارد بدر السالم الذي التقيت به لأول مرة في الدوحة في مؤتمر الرحالة العرب في عام 2010م.

ولا أنسى السيد الحكيم الذي عرفني على القيمر والباجي بمعية الصديق فلاح حسن، وكذلك وجبة الغداء التي أقامها لي الصديق مزاحم في بيته. هناك تفاصيل أخرى ستُكتب بعد تحريض الصديق والكاتب المغربي بوشعيب الساوري المتخصص في أدب الرحلات، وقد نبّهني إلى ضرورة كتابة رحلتي إلى بغداد، التي سأبدأها بكلمات «نحبكم والله نحبكم» وأعني بها الشعب العراقي الذي يبادلنا المحبة ذاتها.