ملكمن

28 يونيو 2022
28 يونيو 2022

هنالك علاقة وثيقة بين الاستعمار والجنسانية، إذ تعد الأجساد مكانا لفرض السيطرة والسلطة. كما أن الجنسانية مرتبطة بصورة خاصة بالفضاء العام والعلاقات المتبادلة وهرمية القوى الموجودة في المجتمع. إننا نعبر عن هويتنا الجنسانية في ظل المعطيات السياسية التي تحكم المكان الذي نعيش فيه. ولعل هذه الفكرة واحدة من أهم ما تفحصه الكاتبة آن بيرنز في روايتها الرائعة ملكمن.

فما يحدث في إيرلندا الشمالية من اضطرابات سياسية في الستينيات المنصرمة ينعكس على الحركة داخل المدينة التي يجمع بين الناس فيها كونهم مناوئين للدولة، وهم كاثوليكيين، يعيشون في ظل مجتمع يبدو مترابطا بصورة كبيرة، مجتمع تنتقل فيه الشائعات بسرعة هائلة، ويُظهر تآزراً في الأوقات الصعبة، رغم كل الخرق والعطب المصاب به.

يظهر هذا المجتمع في الرواية ممسوخاً، إذ لا شكل للفردانية فيه، وكل شيء عمومي على نحو مبالغ به، فلا توجد أسماء في هذا المكان، حتى المدينة نفسها يطلق عليها وصف "هذا المكان" فيما يطلق على الدولة: "دولة ما وراء البحر" والقسم الذي يعيش فيه البروستانت ويدعمون فيه الدولة: "الجانب الآخر من المدينة".

تتحرك الشخصية الرئيسية في هذا العمل وهي تعزل نفسها داخل المدينة، من خلال مشيها وهي تقرأ الكتب، تكاد لا تنتبه لما هو أمامها، الجميع يرون في تصرفها هذا سلوكاً فظاً وغريب، إنها لا تمنح نفسها لهم مهما فعلوا، لكنها وعلى خلاف الأشخاص المنبوذين في المدينة فهي لا تفعل شيئاً لافتاً أو ضاجاً مما جعلها تظن أنها غير مرئية بالنسبة لهم، فكيف يمكن لهم مقارنتها بالفتاة ذات الأقراص التي تسمم الناس، أو الفتى الذي كان يهجس بالصراع بين روسيا وأمريكا حتى مات ميتة مروعة، كانت تظن أنها فتاة عادية حتى دخل ملكمن إلى حياتها وقد اشتهر بأنه من أشهر معارضي الدولة لكنه في الأربعين بينما تبلغ هي من العمر الثامنة عشرة، ومع ذلك أصر الناس على أن علاقة حميمة تجمع بينهما، وأنها أصبحت من قبيلة فتيات المناوئين.

تحس هذه الشابة بأن ملكمن يترصدها، بل أنه وصفها بأنها من ممتلكاته، وبدت غير مرتاحة للسير في الأماكن نفسها التي تسير فيها عادةً، تخاف أن تلتفت فتجده هناك لكنها في المقابل لا تستطيع أن تقول لمجتمعها أن ملكمن يتحرش بها أو يضايقها جنسيا فهو لم يلمسها ولم يقل لها أي كلمة صريحة وواضحة تحمل الدلالة المباشرة للاستغلال الجنسي، لكن كل ما يفعله يحمل الإيحاء بهذا طبعا، إلا أن المجتمع الذي تعيش فيه لم يكن قد اعترف بذلك بعد، لذا ظلت الشابة حبيسة خوفها من ملكمن وعدم قدرتها على الإفصاح من خوفها منه، وما زاد الأمر سوءاً هو شعبيته بين أهالي المدينة الأمر الذي يجعل النظر إلى المسألة من ناحية أنه مجرم مستبعدة بصورة كبيرة.

كل شيء يحمل طابعه الخاص وحساباته الخاصة في مجتمع هذه المدنية، أو هذا ما يطلقون عليه "الخصوصية" في كل مكان من العالم، في حالة مكان هذه القصة فهو مكان لا يذهب الناس فيه للمستشفى مهما بلغت درجة الإصابة ذلك أنه سيقع في شرك رجال الدولة الذين سيجندونه ليفشي أسرار الجماعة المناوئة للدولة، وإن لم يحدث ذلك فعلاً فهذا ما أجمع عليه السكان وبالتالي فإن المناوئين سيقتلونك حال عودتك من المستشفى ظناً منهم بأنك مخبر، وكلمة "أجمع" مهمة للغاية هنا، فهي تشكل أبرز سمات هذا المجتمع الذي يستبدل الأمن والشرطة بالإجماع الذي يؤلفه سكان المجتمع أنفسهم، حتى تبدو سلطتهم هذه نفسها غير قابلة للرد والدحض كما حدث مع شخصيتنا الرئيسية التي اتفقوا جميعاً حتى أمها أنها على علاقة بملكمن فعلاً.

إن هذا الرواية وعلى حد تعبير الناقدة كلير كليروي بيان لكل من قمع القبيلة، والامتثال، والدين والنظام الأبوي والعيش في ظل انعدام ثقة واسع النطاق وفي حالة خوف مستمرة. تسميهم كليروي بالشرطة المجتمعية التي تحدث بين مجتمع بأكمله أو أمه بأكملها، أو ربما في مجرد دويلة منغمسة على مدى طويل في مستويات عالية من العقلية المظلمة، مجتمع يرزح تحت ضغطين الشخصي والجماعي.

هذا المجتمع يخاف من كل ما لا يبدو ظلامياً، اعتياد حالة الظلامية هذه تجعله يستسيغ الألم ويخاف من أن ينجح كما في حالات الحب التي يهرب منها الناس لأنهم يخافون أن ينجحوا في هذا بعد الزواج، إنه مستوى مركب ومعقد من تأثر الإنسان بمحيطه وما يبدو عليه وجدتُ أن بيرنز نجحت في التقاطه بنعومة فائقة دون أن تضطر لاجترار الحصار العسكري الذي يرزح تحته الناس في هذا المكان.

فها هي شخصيتنا الرئيسية مثلا المشاءة التي تقرأ الكتب، عندما أحبت رجلاً، لم تستطع أن تنخرط معه في علاقة معلنة ومثبتة، مما اضطرهما للإشارة لعلاقتهما بـ "شبه العلاقة" وتسمية بعضهما شبه الحبيب وشبه الحبيبة.

إن ذلك جعلهما أكثر خفة وحرية، رغم أنهما يبدوان بالنسبة لنا في علاقة كاملة، لكنه الخوف من أحكم قبضته مرة أخرى ودفعهما لهذا الموقف.

تكتب كليروي عن ملكمن والأدب الأيرلندي، وكانت قد استشهدت بـ تريسترام شاندي الذي وصف الرواية على أنها"بيكتانية" أي أن لها قدرة على تتبع المنطق داخل العبث، وتنجح ملكمن في كونها كذلك لأنها تستحضر مجتمعا يتكيف من أجل البقاء داخل "جيب شمولي" مذكرة إياه برواية أخرى كان جيران الراوي فيها يدينونه باعتباره من "الدين الخطأ" وعنوانها "سقيفة مهجورة في كو ويكفسورد" لديريك ماهون.

بعد فوزها بجائزة مان بوكر لعام 2018 واحدة من أهم جوائز الأدب في العالم اليوم، ظهرت آنا بيرنز لتشكر كل مؤسسات الخدمات الاجتماعية التي منحتها الطعام والمأوى أثناء كتابتها للرواية، إذ كانت ظروفها المالية صعبة للغاية، الأمر الذي استقبله الناس بحفاوة كبيرة.

قالت بيرنز أنها تعاني من آلام في الظهر ولا تستطيع تحمل نفقات الحياة، وبالنسبة لصحيفة لونس انجلس تايم فإن قيمة الكتاب ليست في أن كاتبته هي الأولى التي تفوز بالجائزة من إيرلندا الشمالية فحسب، بل أنه يقدم من منظور فتاة تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، وهي عادية جدا ولم تذكر اسمها في كل صفحات العمل إلا أنها وقعت وبشكل غير مقصود منها في شرك سياسات وقوى الاضطرابات والصراع العرقي العنيف والمدمر في إيرلندا الشمالية والذي قسم الأمة وكل مجتمع حتى الجيران إلى فصائل صغيرة.

تستشهد الصحيفة بمشروع قام به سام ليث في الغارديان وهي جمع الكلمات التي وصف بها الناس الرواية التي اعتبرها الكثيرون صعبة جدا وكانت الصفات الغالبة: "توجع الدماغ" "تمثل تحدياً" "غير قابلة للاختراق" "بحاجة للاستيعاب والتركيز المستمر" و "المحيرة". أما بالنسبة لي فقد بدا هذا أصلياً بصورة خارقة، وكثيفاً إلى درجة أنه يجعلك تؤمن بقدرة الأدب على اختراع أصوات جديدة لم نعرف لها طريقاً بعد.

أريد أن أشيد بالترجمة الرائعة للمترجمة السعودية الشابة ريوف خالد التي صدرت مع دار أثر الشهر الحالي بمراجعة للترجمة من المترجم العماني أحمد المعيني.