ملاحظات عن العمل

28 مارس 2023
28 مارس 2023

لم أفكر عندما كنت طالبة في المدرسة في طبيعة عملي المستقبلية، وعلى عكس زميلاتي كنتُ أتردد عندما يُطرح عليّ السؤال التقليدي: ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل؟ كانت أمي قد قررت هذا بالفعل فور ولادتي، «أمل ستصبح طبيبة»، والجميع في العائلة كان يتصرف معي على أساس أن هذا بدهي ومتفق عليه، جدتي كانت تناديني «دكتورة». أما ما أمكنني التفكير فيه ذلك الحين، فهو رغبتي في الاستقلالية، وامتلاك حريتي، كانت هذه الرغبة غرائزية لم يدفعها وعيٌ واضح بالحرية وأدبياتها، كما لو أنني عرفتُ فطريا وفي مكان عميق وأصلي بأنني أريد انتزاع حياتي. وعندما تخرجت من الصف الثاني عشر، وقبلتُ في كلية الآداب بجامعة الكويت، بدأتُ أشعر بأنني بدأتُ بالفعل خسارة ما كنت أريده منذ زمن بعيد، لذا وعندما ذهبت للقاء الطلابي في وزارة التعليم العالي، سألتُ عن إمكانية التحويل لكلية الهندسة قبل قبول العرض المقدم لي، لقد قررتُ أن أدرس هندسة النفط تحديدا، وربما تكون كلمة «قررت» هذه داعية للسخرية، إذ لم يكن الأمر مدفوعا برغبة أو خطة واضحة، لقد أردتُ الكثير من المال والعمل المضمون وبدا أن ذلك الخيار سيقربني من حريتي المنشودة.

عندما دخلتُ الجامعة حدثت ظروف -ليس هذا المقام المناسب لعرضها- لكنني وبعد سنة من دراسة المواد الأساسية لكلية الهندسة، لم أفلح في استكمال التحويل للكلية لأسباب إدارية تتعلق بقوانين جديدة داخل الجامعة، مرة أخرى وجدتُ نفسي رسميا في كلية الآداب، أمام خيارات لا يبدو أن لها مستقبلا مهنيا مشرقا، وكنتُ أحاول إقناع عائلتي بإعادة الثانوية العامة (الدبلوم) أو ابتعاثي لدراسة الطب في أوكرانيا لأن تكاليف الدراسة هناك رخيصة. لم يسمعني أحد كما لو أنني كنت أهذي فحسب، حتى أنني الآن أتساءل بجدية: هل حدث هذا فعلا أو أن هذا هذيان رسخ نفسه في كونه حقيقة؟! لكن ومع وجودي في كلية الآداب والفسحة الكبيرة من الوقت مقارنة بعامي الدراسي الأول في كلية الهندسة ومختبراتها، قررتُ أن أتقدم للعمل الطلابي، وعملتُ بالفعل في المكتبة الرئيسية، وكرهتُ ذلك جدا، رغم أنني نظرتُ للأمر قبل ذلك برومانسية عالية وأحلام يقظة أغرقتني في غبطة شديدة. وكان ثاني عمل لي بعد سنة من هذا التوقيت، بالإشراف على صفحة دورية تصدر مع إحدى الصحف الكويتية باسم طلبة جامعة الكويت، عمل يتضمن الإشراف والتحرير، سرعان ما ضقت ذرعا بالاجتماعات التي لا طائل منها، والإيميلات التي ينبغي الرد عليها، وهنا بدأتُ أحسُ بأنني لا أحب العمل ولا أريد أن أعمل، لكن هذا بالضبط ما ينبغي عليّ فعله، ليس لديّ خيار آخر. عادة ما تنتهي هذه التجارب باستلقاء على السرير يستمر لأيام دون أن أشغل الضوء أو أفتح ستائر الغرفة، في حالة جنينية تتوق للتلاشي التام من عالم لديه شروط مكلفة للبقاء فيه.

قرأتُ عن العمل كثيرا، لا أعرف كم مرة أعدت قراءة الانمساخ لكافكا، يعذبني مشهد بعينه في كل مرة، إحراج سامسا مما يحدث ورغبته في التبرير رغم الوضع الذي يجد نفسه فيه والذي يُفترض أن يكون كافيا للشهادة عن سبب عدم ذهابه للعمل في ذلك اليوم الذي وجد نفسه فيه ممسوخا لصرصار! ومقالات تُشرح دفع الرأسمالية بفكرة حب العمل، ومع ذلك كان ذلك أقصى ما أتمنى: أن أجد وظيفة وأعمل!

عندما عدتُ إلى عُمان كان التوظيف الحكومي متوقفا تقريبا، ومن الصعب إيجاد وظيفة لطالبة تخرجت من قسم الإذاعة والتلفزيون بمساند علوم سياسية في القطاع الخاص، ومع ذلك لم أمكث في البيت سوى شهرين ونصف الشهر، قبل أن أوقع عقدا للعمل محررةً صحفية في إحدى الصحف الإلكترونية الخاصة. أكثر ما كان يثير الرعب فيّ هو ضرورة التواصل مع الزملاء في مكان العمل، لستُ جيدة في هذا على الإطلاق، ثم الألاعيب التي ينبغي أن يتسلح بها الموظف لضمان وصوله للمراتب العليا أو حتى استمراره في العمل، كانت ساعات العمل الطويلة تصيبني بالجنون، وبدأت بفقدان السيطرة حتى شعرت بأنني سأطلب لاجتماع للاستغناء عن خدماتي وتوبيخي، مما دفعني لتقديم طلب استقالتي دون وجود بديل آنذاك، الأمر الذي فاجأ زملائي الذين أصر بعضهم أنني أضغط على نفسي كثيرا ولديّ توقعات عالية من شابة صغيرة تخرجت للتو! لكنني اعتبرتُ كلامهم نوعا مع العزاء والمجاملة السخية التي لم ترغب في سحقي.

قرأتُ مقالا لصديقي الشاعر الجزائري صلاح باديس عن العمل وتجربته فيه، وكان قد أشار لمسألة مهمة كانت في تفكيري عن العمل ضمنا، وهي الرغبة في تحسين شروط هذه «العبودية» الجديدة بدلا من التفكير فيه وبما يمنحه ويأخذه منا طيلة الوقت. يبدو أن هذا شيء مشترك بين غالبية الناس، إننا نساق لأعمالنا لا بداعي ضرورتها وأهميتها للعالم الذي نعيش فيه، بل بدافع شكل من أشكال المقايضة، التي تعكس حالة القلق العامة التي يعيشها الإنسان بصفته -أي القلق- الملمح الأهم لعصر ما بعد الحداثة. لفتني صلاح في مقالته إبان أحداث جرت في الجزائر وحديثه عن تحول عمله لنوع من النشاط الموازي لأحداث تغيير في البلاد، وكيف أن الإحساس بهذا العمل والرغبة فيه غيرت كل شيء في أيامه، لقد بدا أن الحياة يمكن أن تصبح نابضة وحية رغما عن وجود العمل فيها، لكن هذا لم يستمر طويلا فمع وأد تلك الأحداث التي ترمي للتغيير عاد للنقطة الصفرية الخاصة به. عملتُ في أماكن عديدة بدوري، بائعة في متجر كتب بدوام كامل، محررة لصحيفة خليجية، مذيعة، معدة برامج، ومنتجة برامج بودكاست لعل أشهرها كان «فنجان» لصالح قناة ثمانية السعودية. ينتهي الأمر غالبا بحالتي الجنينية تلك على سرير تغير موقعه خلال السنين الماضية.

ربما يكون التفكير في هذه المسألة نوعا من الرفاهية اليوم، مع شح الوظائف، وتسريح العاملين ليس في سلطنة عمان فحسب بل في العالم كله، لكنه ملح أيضا، وربما ينكز شيئا في المؤسسات والشركات، لا في جعل مكان العمل آمنا فحسب، بل التفكير في «المعنى» منه. في الأفق الذي يمكن أن تفتحه ساعات مضنية وطويلة نقيضها في الأماكن التي نعمل فيها، أعلم بأن هذا التفكير يبدو «متطلبا» في عالم يحصرنا أمام حتمية رعونة شروط البقاء، وبأن الهدف هو تحصيل الراتب في آخر الشهر، ولا ينبغي لا من باب «easy going» ولا من باب «مقارعة الرأسمالية» في صورها الأكثر تطرفا، الدعوة لهذا التفكير. لكنه عُمرنا الذي ربما علينا أن نشعر بحقنا فيه، في عالم يقول لنا: إنه لا حق لنا في شيء.