مقال : احذر أن يأخذوا ظلك

27 ديسمبر 2021
27 ديسمبر 2021

تقدح القراءات بعض الومضات في الذاكرة، إذا وجدت مشتركات ثقافية في معتقد أو فكرة، مع ثقافات أخرى، فالمشترك الثقافي الإنساني يُمهد للتفاهم والتسامح بين الحضارات، ويُرقّي المشاعر الإنسانية المتولدة من عمق الفطرة البشرية، التي لم تخدش عفتها الأيديولوجيا، التي مزقت الأمم وخلقت كيانات سياسية، وقُدِّم لها أنهار من الدماء. لذلك كانت الميثولوجيا بابنا للولوج إلى ثقافات الشعوب وآدابها.

قرأتُ مؤخرا عن الظل الذي يشغلني كثيرا عند الاستماع لشعر الدبرارت، فقد تغنى به شعراء ذلك الفن في ظفار، منهم على سبيل الذكر لا الحصر الشاعران الراحلان محاد الفهد كشوب، وعامر شُودر العمري، الذي أبدع في تصوير الشروق كأنه مشهد سينمائي، حيث وصف ضوء الصبح بأنه يطوي الظلال من بطون الأودية، وعند المساء يُعيد بسطها كما يُبسط السجاد على الشعاب والأودية. وبما أن الشاعر ابن بيئته فهو يلاحظ انحسار الظلال حين الغدوة، وتمددها وقت الأصيل.

لم يكن شعراء الدبرارت وحدهم من وظّف الظل في القصيدة، فمثلا قصيدة محمود درويش الشهيرة مديح الظل العالي التي نظمها إثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان صيف 1982، كذلك قصيدة الظل والصليب لصلاح عبدالصبور. لكن شِعر الدبرارت كان أقرب إليّ فهما وذوقا، كونه يُلقى بلغتي الأم، وأيضا نظرا لقوة الإبداع في الوصف، فصور الظل في الدبرارت، وتمدده على الأماكن توحي لي بمشاهد بصرية، أكثر من معاني النص، لذا بحثت عن الظل في المجال الذي ينتمي له شعر الدبرارت، أي مادة التراث الشعبي، التي يصفها إميل دوركهايم في كتابه ( الأشكال الأولية للحياة الدينية) "بأنها أطلال أديان غابرة".

يُعتبر ظل الإنسان أو انعكاس صورته على المرايا والزجاج، أو على أسطح الماء، عند بعض الشعوب، بأنه روح للإنسان ومادته الحيوية، كما أورد ذلك جيمس فرايزر في كتابه (الغصن الذهبي) الذي يُعتبر مصدرا مهما لدارسي ميثولوجيا الشعوب، ويذكر فرايزر أيضا أن أهالي ترانسلفانيا في رومانيا لديهم عادة عند بناء أُسُس البيوت، إذ يقومون البناء باستدراج رجل ما إلى حجر الأساس ويقيس حجمه، أو جزء من جسمه أو ظله، دون عِلم الرجل، ويُدفن المقياس تحت حجر الأساس أو يضع حجر الأساس فوق ظل ذلك الرجل، الذي يُعتقد أنه يموت بعد ذلك في غضون سنة، لذلك كان العمال يرددون عبارة " احذر أن يأخذوا ظلك!".

وضمن الإطار الميثولوجي للبناء والتشييد، فإن عادة رش الدماء في أسس البيوت المشيدة حديثا عادة قديمة كانت معروفة في وادي الرافدين والجزيرة العربية، وتندرج تلك العادة ضمن معتقدات البناء والعمارة، إذا يُعتقد بأن الدماء قرابين تدفع لدرء أذى الجن، وأيضا يُوزع الملح في زوايا الغُرف، ويُدق مسامير في أركان البيت. وهناك من يكسر البيض على درج البيت، اتقاء للحسد.

وعودة إلى الظل وانعكاس صورة الإنسان في المرآة، فقد حذرنا أهالينا في طفولتنا من التحديق في المرآة، لأن الميثولوجيا المنطوقة بالشحرية تقول "أن تحديق الطفل في المرآة، تفقده رعاية الملائكة عند سقوطه من المرتفعات".

وكذلك فإن كبار السن كانوا يتوارون عن الكاميرا، ويفضلون عدم تصويرهم، لأن التصوير يُقصّر من عمر الإنسان، كما قال لي رجل ستيني ذات مرة حينما هممت بالتقاط صورة فوتوغرافية له، لاعتقاده بأن الكاميرا تسحب الروح.

إننا لا نعرض هذه المسائل الثقافية على محك التصديق، بل لكي تمنحنا معرفة نظرة الإنسان قديما إلى محيطه البيئي، وتفسيره لما يدور في مجاله الحيوي، ومراقبة التغييرات والتبدلات من حوله، فالظل لم يكن يُقدم خدمة الفيء للإنسان والحيوان، بل كانت له وظيفة أخرى، غير معرفة التواقيت.