مصر التي في الخاطر

08 يناير 2024
08 يناير 2024

نحمل لمصر وشعبها المحبة والتقدير ومشاعر الوفاء، وهي أهل لذلك نظرا لمكانتها التاريخية والثقافية وما تمثله في الوجدان العربي والإسلامي من أمجاد ومواقف سياسية دفعت ثمنها أنهارا من دماء المصريين ومقدراتهم، أما لكاتب هذه السطور فيكفي فقط أنه فكّ الأبجدية على أيدي المعلمين المصريين مثله مثل آلاف الطلبة العُمانيين الذين تلقّوا العلم من أفواه المصريين، ففي العام الدراسي 1986 /1987، افتتحت مدرسة صوب الواقعة بين ولايتي مرباط وسدح في مكان مقفر إلا من مبنى حكومي وحيد. في المدرسة المكونة من غرفتين وغرفة للمعلمين تتلمذنا على أيدي الأستاذ شعبان والأستاذ عارف الذي كان تولّى مهام إدارة المدرسة، ثم توالى على المدرسة عشرات منذ تأسيسها وإلى الآن، وتفتحت مداركنا على الثقافة المصرية عبر الدراما والأفلام والأدب والصحافة لاحقًا. وعندما تشكّل الوعي الأولي وبحثنا عن سؤال الانتماء، وجدنا صورة جمال عبد الناصر حاضرة بصريا أمامنا معلّقة في إحدى غرف مركز الفرقة (شبه العسكرية) التي تحمل اسم الزعيم الخالد في الوجدان الشعبي.

ومع ذلك لم أزر مصر إلا عام 2013م لأسباب يطول شرحها، ولكني بعد أن دخلت مصر بسلام آمنا مطمئنا كان مقام عبد الناصر أول معلم أدخله. في زيارتي الأولى لم أتمكن من التعرف على البلد كما ينبغي، إذ لم تكن لدي وقتها صداقات في الوسط الثقافي المصري، في حين كانت ثقافة البلد هي خريطته ومفتاحه الذي يفتح أمامك ما استغلق على الفهم. بعد عشر سنوات من الزيارة الأولى تكررت الزيارات إلى القاهرة التي رأيتها بعين أخرى وتعرفت إليها بشكل أعمق بعد أن عرفني إليها الصديق والمثقف القطري محمد المنصور، الذي أهداني كتاب «دهاليز القاهرة» لمؤلفه أحمد محفوظ، ومؤخرا تجولت معه بمعيّة الكاتب والأديب عزت القمحاوي وابنه أحمد في مكان لا يتعرف إليه السائح بسهولة، إذ نزلنا في شارع باب الوداع عند تقاطع شارع صلاح سالم، وبالتحديد عند بداية المدافن والمرور بتكية السيد محمد سر الختم الميرغني، قبل التوجه إلى اليمين نحو شارع باب الوزير، تاركين خلفنا الشارع المؤدي إلى مسجد السلطان حسن، الذي قادنا إلى آثار العهد المملوكي في مصر، من مسجد ومدرسة خاير بك (آخر سلاطين المماليك وأول حاكم لمصر تحت الراية العثمانية) ومسجد آق سنقر ( المسجد الأزرق) الذي يشبه جامع قرطبة الإسبانية، ثم مررنا بمسجد أم السلطان شعبان، وولجنا إلى شارع التبانة مرورا بجامع الصالح طلائع، وانتهت الجولة عند مسجد الأزهر، بعد المرور على باب زويلة الشاهد على عدة أحداث تاريخية دامية في الصراعات التي شهدتها مدينة القاهرة القديمة، منها شنق السلطان طومان باي من قبل العُثمانيين.

عرّفتني الجولة على بعض آثار العهد المملوكي في مصر، التي يطغى عليها المعمار المتقن للمساجد والمدارس المرتبطة بها، وقد رُمِمت بعض المساجد والمدارس والمقامات التي مررنا بها من قبل العديد من المؤسسات الحكومية والدولية منها مؤسسة الآغا خان للثقافة، والاتحاد الأوروبي.

نعلم بأن مصر تقف على طبقات حضارية وثقافية متنوعة وفريدة وعدد لا يحصى من المواقع الأثرية التي يمكن تأهيلها واستثمارها ثقافيا واقتصاديا، لذا أرجو أن يتم تأهيل منطقة الدرب الأحمر وتهيئتها سياحيا لتدر المليارات لخزينة الدولة المصرية، ناهيك عن تخصيص الأحياء التراثية ذات المعمار المميز في شارع باب الوزير ودرب التبانة لمشروع صناعة الأفلام التاريخية، فالمنطقة عامرة وزاخرة بالشواخص الثقافية والحضارية التي يتطلب الحفاظ عليها؛ لأنها تُعبّر عن ثقافة إنسانية عميقة الدلالات.

وعودا على بدء، استوحيتُ عنوان هذا المقال من أغنية «مصر التي في خاطري وفي فمي» التي كتب كلماتها الشاعر أحمد رامي، ولحنها رياض السنباطي، وغنتها أم كلثوم.