مُسِنُّونْ..

08 أغسطس 2025
08 أغسطس 2025

ينطلق الحوار ما بين الأجيال من خلال أمرين أراهما شخصيا على قدر كبير من الأهمية، أو هما الأساس الذي يمكن اعتماده كمنطلق لتقييم أهمية هذا الحوار القائم؛ أو ذلك الذي سيكون ويتجدد، وهذان الأمران هما الذاكرة المختزنة عند الأكبر عمرا، والرؤية التطلعية أو الاستشرافية عند من هم الأصغر عمرا، ولأن هنا؛ كما يبدو؛ تفاوتا نوعيا في الإدراك لدى الطرفين، فإن الحوار - في هذه الحالة- بلا شك؛ سوف يتعقد، فلا الأول: وهم الأكبر سنا، يمكنهم استشراف هذه الرؤية التطلعية التي يذهب إليها الأصغر سنا، بحكم محفزاتهم المعنوية المتوهجة، ولا هؤلاء الأصغر سنا؛ يمكنهم أن يعوا هذه التجربة الطويلة الممتدة التي تختزنها ذاكرة كبار السن بكل حمولتها المعرفية وخبرة الحياة، وهذه في حد ذاتها مشكلة معقدة، ليس يسيرا إطلاقا إيجاد نقطة التقاء متطابقة تجمع بينهما، والذي يحدث أن في مثل هذا الحوار المتباين في الرؤى والتقييمات، أن تتم مجموعة من التنازلات لدى الطرفين كنوع من المجاملة، أما القناعات فلن يتمكن أحد من زعزعتها أو التأثير عليها أو إرباكها وتكسير ثوابتها لأي طرف على الآخر، حيث يظل كل طرف متمسكا بالقناعة التي توصل إليها، ويؤمن بصحتها، ومن هنا يأتي تبادل التهم بين الطرفين في عدم قدرة كل طرف على فهم الآخر، وهي تهم؛ وإن عدها البعض تجاوز للقيم الأخلاقية؛ إلا أنها تظل حقيقة واقعية، ولا يجب نعتها بأنها «نكران للجميل» كما يحلو للبعض نعتها بذلك، هي تباين للإدراك لدى الطرفين، وليس نكرانا للجميل.

وينبئ هذه التباين لدى الطرفين من حقيقة إنسانية؛ قبل أن تكون ممنهجة - أي خاضعة لعرف ما - وهي أن هذا الإنسان الذي اعترك الحياة بحلوها ومرها، وعايش فيها من التجارب، وتعامل فيها من خلال كثير من المواقف، إذن؛ هو وصل إلى حالة من التشبع الذاتي، بحيث لا يعاني من أي فقر من معطيات الحياة المتاحة، ولذلك تتضاءل لدى هذا المسن كل الصور الاحتفالية المتاحة أمامه، ولا يرى فيها إلا صورا نمطية مملة، غير قادرة على لفت انتباهه، بعكس الأصغر سنا، الذي يرى فيها البهجة، والنضارة، والحركة، والنشاط، وضرورة أن يصل إليها ويستمتع بها، قدر الإمكان، ومعنى هذا أن حالة الهدوء التي يسعى إلى تحققها المسن، تتقاطع مع حالة الصخب لدى الشاب، فنقطة التقاطع هذه هي التي توسع حالة التباين بين الطرفين، ولذلك فكثيرا، وخاصة في المجالس؛ سواء العامة أو الأقل عددا «الخاصة» ينحشر المسن في زاوية، ويترك كل ذلك الصراخ من حوله، لشعوره أن ذلك لا يعنيه في شيء، حتى وإن كان الجمع يناقش أمورا على قدر كبير من الأهمية للحياة الحاضرة، للقناعة الموجودة عند هذا المسن، أنه قد تجاوز هذا الاهتمام الذي عليه الآخرون، وأنه الآن لا يعنيه الكثير مما هو مطروح للنقاش، وإن تكرم أحد وسأله عن رأيه تأتي الإجابة باهتة، عنوانها: «هذا زمنكم».

بينما في المقابل تنشط الذاكرة كثيرا عند هذا المسن، عندما ينتقل الحديث إلى شيء من الذكريات، حيث يستعيد من خلالها كل تفاصيل أنشطته التي كان يقوم بها، ويرى فيها نفسه، ويستحضر من خلالها زمنه الذي ولَّى، وفي خضم هذا الاستحضار، يتجاوز واقعه الحالي، وكأنه يستعيد مجدا لا يرى له مثيلا في هذه اللحظات التي يتقاسم مع الجيل الذي لا يزال يعيش في وسطه في لحظته الحاضرة، وأن كل ما هو منجز الآن، ويستمتع به لا يشكل له شيئا من الأهمية، ولذلك فما بين لحظة وأخرى يستعيد شيئا من الذكرى لترميم الفراغات الفاصلة بين الزمنين.