مجالس أدبيّة رمضانيّة

13 مارس 2024
13 مارس 2024

في شهر رمضان تحلو جلسات السَمَر بعد القيام بالواجبات الدينية، وأداء صلاة التراويح، وتطيب الأحاديث في المجالس، التي تحمل نكهة روحية تتوافق مع طبيعة الشهر الفضيل وطقوسه، والمجالس ليست من الظواهر الثقافية التي أنتجها العصر الحديث، فلها جذور في تراثنا، يقول المؤرخ د.حميد محيد هدو «كانت مجالس الأدب والمعرفة تُعقد أيّام النبي (صلى الله عليه وسلم) وبحضوره في المسجد.. ويبلغ عدد حضوره أحيانا أربعة آلاف محدث وراوية ومؤرخ وأديب، واستهوت المجالس ملوك بني أمية وبني العباس فكانت تُعقد على نطاق محدود في قصورهم وقصور وزرائهم، وهم يأنسون لأحاديث تلك الصفوة من العلماء والأدباء لما كان يدور فيها من ضروب العلم والمعرفة والأدب والمطارحات الأدبية والشعرية، وأبرزها كانت تعقد في عهدي الرشيد والمأمون».

وقد أتيحتْ لي فرصة حضور مجلس الخاقاني المعروف في الكاظمية مطلع التسعينات، الذي يضمّ نخبة من الشعراء والأكاديميين من بينهم: د.علي الوردي، ود. حسين علي محفوظ، وعبدالرزاق عبدالواحد، وراضي مهدي السعيد، وسلام الشماع وشرقية الراوي، إلى جانب عدد كبير من الأدباء، غصّ بهم المجلس، وإلى اليوم أذكر الأحاديث والنقاشات التي تتخللها اللطائف، ففي مثل هذه المجالس تحضر العفوية، ويغيب التكلّف، وتكون الأحاديث تلقائية، فمشاركة تقود إلى مشاركة، ومداخلة تجرّ أخرى، وحديث يعقّب على حديث، وبذلك تختلف عن الجلسات التي تقيمها المؤسسات الثقافية، حيث الإعداد المسبق أمر لابدّ منه، وخلال سنوات إقامتي في صنعاء منتصف التسعينات، أتيحت لي فرصة حضور مجلس د. عبد العزيز المقالح الأسبوعي الذي كان يقيمه في مركز الدراسات والبحوث اليمني ،يوم الأحد، وكانت في شهر رمضان تُقرأ القصائد الصوفية وتتم مناقشتها، من قبل حضور المجلس الذي كان يغصّ بالأكاديميين والأدباء وضيوف اليمن، حيث تجري نقاشات عميقة، تسبقها قراءات شعرية لمن يرغب، ويجري بعد ذلك مناقشتها، إن كان فيها ما يستحقّ النقاش، ويلفت الأنظار، من نصوص، وقضايا ثقافية، فكان هذا المجلس، كما وصفته في أكثر من مناسبة «مختبرا شعريا ومعرفيا».

والملاحظ أن ميزة المجالس، التي تقام غالبا في البيوت، أنها تحافظ على الإرث الثقافي، فحين حضرتُ جلسة من جلسات «مجلس السبت» لعميده السيد قحطان البوسعيدي، لاحظتُ أنّ جميع الذين قدّموا قراءات شعريّة ألقوها بالطريقة العمانية التقليدية، التي تقوم على تنغيم المفردات، ومطّها، بشكل يجذب أذن السامع، خصوصا لمن يمتلك صوتا جميلا، مثل الشاعر موسى العامري، وهو من روّاد هذا المجلس، وله قصيدة مكتوبة ومعلّقة على الحائط في المجلس، إلى جانب قصائد أخرى ألقيت في المجلس، بينها قصائد لأسماء معروفة في الوسط الثقافي، وبقيت القراءة بالطريقة التقليدية، حصرا على هذه المجالس مع استثناءات قليلة من بينها إلقاء الشاعر موسى العامري نصوصا في مناسبات عديدة، أذكر منها القصيدة التي افتتح بها ندوة (الأسر العمانية العلمية - آل حسين بن شوّال) وجاء في مطلعها:

مدي يديك أيا علياء يا غررُ

مدي يديك فقد صيغت لك الدرر

ونازعي الكأس أهل العلم وابتسمي

ولتطربي اليوم أهل الشعر قد حضروا

وحتى الشعراء الشباب يلقون قصائدهم بهذه الطريقة، ومن بينهم الشاعر هلال الشيادي، وهذا يعني حرص الأجيال الجديدة على ذلك، فهذه المجالس تحافظ على الإرث الثقافي، مثلما تحافظ على الإرث الاجتماعي، واحترام التقاليد في السلام والكلام، والجلوس حسب مكانة الحاضرين الاجتماعية، وهناك تقاليد لكلّ مجلس، ففي نهاية جلسات مجلس (السبت) تمرّر الحلوى على الحاضرين، يعقبها جلب البخور وتمريره عليهم، مثلما تمرّر العطور، وحين يغادر روّاد المجلس تبقى في أفواههم طعم الحلوى، وفي أنوفهم رائحة البخور، وفي ذاكرتهم أحاديث شيّقة لا تُنسى.

عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي عماني