متاهة ميتافيزيقية

07 مايو 2024
07 مايو 2024

إسكندر حبش

كان ذلك في بداية تسعينيات القرن المنصرم (1993). أذكر تلك اللحظة جيدا، إذ كانت الأيام الأولى لوصولي إلى مدينة باريس، من أجل إقامة ستستمر عدة أشهر. هالتني يومها صور ملصقات كبيرة لشخص مجهول، بالنسبة إليّ، في محطات مترو الأنفاق؛ شخص يدعى بول أوستر، وتحته عبارة «مؤلف ثلاثية نيويورك». وعلى الملصقات أيضا صورة لبرج كرايزلر، مشوهة ومجردة قليلا، من دون أن تصل إلى توهج ناطحات السحاب في لوحات كاندينسكي. عبرتني لحظتها العديد من الأسئلة: من هو هذا الرجل «الصفيق»، القادر على امتلاك هذا الشعار القوي: نيويورك؟ هل يدعي أنه كتب الرواية النهائية عن المدينة، مثلما فعل وودي آلن في السينما، عندما أطلق على أحد أفلامه اسم مانهاتن؟ لماذا هذا الهوس الباريسي بالكاتب الذي تتجاهله بلاده التي كان المفترض أنه يجسدها في عمله؟

لم تكن قراءتي الأولى «مفيدة»، بحثت فيها عبثًا عن ميولي، عن الصخب والألوان التي كنت أعرفها عند ملفيل وفوكنر ودوس باسوس وهمنجواي وهنري روث وصول بيلو وجيمس بالدوين وتوم وولف، وباتي سميث وغيرها من الأسماء التي تربينا عليها، وكانت حاضرة بقوة في مكتبتنا العربية. ولو لم أفهم أنه من مواطني تلك المنطقة -نشأ أوستر في نيوجيرسي- لكنت اعتبرته أجنبيًا، أوروبيًا يصف قارة خيالية، مثلما فعل كافكا في «أمريكا»، أو لارس فون ترير في فيلمه «دوغفيل».

وبصرف النظر عن جرأة العنوان، أزعجني يومها «قلة النسيج»: لا نسيج اجتماعيا واقتصاديا، القليل من علم النفس أو الحياة الأسرية، مشهد صوتي مكتوم. كل ذلك تم نقله بلغة «مبتذلة»، أو باستخدام مصطلح جيمس وود، الناقد في مجلة نيويوركر والأستاذ في جامعة هارفارد، «مستعارة».

تمضي السنوات، ليفاجئني عنوان آخر، «رعوية أمريكية»، في إحدى مكتبات بيروت، التي كانت تستقدم الكتب الأجنبية الجديدة (قبل أن تدخل المدينة في غيبوبتها) ويجعلني أنسى اللغز: لقد حلّ فيليب روث فجأة محل أوستر باعتباره الكاتب العصري، والمثقف اليهودي النيويوركي في تلك اللحظة (بكل ما تحمل التسمية من خلفيات تاريخية، واجتماعية، وحتى سياسية).

الحقيقة أن روث وأوستر كانا بمثابة وعائَــي تواصل جعلاني أدرك هذا الجانب من الكتابة عندهما؛ فقراءة أحدهما تشكل تأكيدًا لهويتهما، ودليلًا على أنهما تجاوزا أصولهما «المكروهة». ألم يعلن فيليب سوليرز لبرنار بيفو (في إحدى الحلقات التلفزيونية) أن صديقه روث كان أعظم كاتب على قيد الحياة؟ فبطل روايته «نساء» هو صحفي من نيويورك: أي كاتب نثر محلي يمكن أن يرقى إلى مستوى كاتب عالمي ينحدر من جزيرة ناطحات السحاب؟

في هذه البدايات، فهم بول أوستر اللعبة. جعلتني إقامتي الباريسية، أتعرف إلى هذه «العبادة» التي يكنّها له القراء الفرنسيون، الذين كانوا السبب الأول في انتشاره.

فمن المفارقات في حياة أوستر، أن الولايات المتحدة، أعادت استيراد الكاتب، بعد نجاحه الفرنسي. ومنذ ذلك الحين، صار يكتب لأصدقائه الساكنين على ضفة نهر السين اليسرى؛ لينسج نصوصًا تعادل قبعة اليانكيز: بقايا التفاحة الكبيرة. من هنا، أسلوبه المحايد والتجريدي: فكلما كان أكثر سلاسة كان أكثر توافقا. ثمة أجواء تشبه «الأفلام السوداء» من دون هذه الحسيّة، حبكة تشويق بلا تفاصيل وبلا شعور بأن ثمة قضايا مهمة، وأن الكون حقيقي. بالنسبة له، نيويورك مجرد فكرة.

في كتاب The Fun Stuff يخصص جيمس وود فصلًا عن حالة أوستر، مشككًا في أهمية مصطلح «ما بعد الحداثة». وبحسب الناقد، فإن أوستر يميز نفسه عن هذه الحركة بحبه للكليشيهات، التي يدمجها من دون سخرية.

يقول وود: إن ثمانين بالمائة من نص أوستر يشبه رواية واقعية متوسطة. أما بالنسبة للبقية، فهو يقوم بإجراء «جراحة ما بعد الحداثة» من أجل التشكيك في صحة القصة ومكانتها. لذا تبدو جمله وفقراته غير مثيرة للاهتمام؛ ولمؤامراتها «السخيفة» تأثير في خلق بنية «غير واقعية» أو سريالية.

هل كان بول أوستر يدرك هذا النقد الموجه إليه؟ لا أظنّ ذلك. بل بقي عند قرائه، ذوي اللغات المتعددة، (بدأت كتبه تترجم في بلدان أخرى وبلغات الأرض) نموذجًا للروائي، بكل ما يحمله من سحر وإزعاج. حقق حضورا يتفوق على كل حضور الكتّاب الأمريكيين، ليعرف نجاحًا خاصًا ورائدًا في كثير من الأحيان.

وبالنسبة إلى عدد قليل من الكتّاب، شكّـل هذا البُعد استقبالا مضخما من خلال الفكاهة، واللهجة الفرنسية المليئة بالسحر، ونوعًا من الاستراتيجية الطبيعية التي تشمل عملًا يسهل الوصول إليه، وشعبيًا، ومطولًا للغاية وأكثر تعقيدًا مما يبدو.

لذلك، نعم، دعنا نقول، أي شخص قرأ بول أوستر سيتم إغواؤه، وتنويمه مغناطيسيًا، كما هو الحال عندما تقابل ممثلًا سينمائيًا، إذ سوف تقول لنفسك: «نعم، هذا جيد، إنه كاتب نيويوركي».

أمضى أوستر حياته الكتابية بأكملها في البحث عن نفسه، والتفكير بشكل أفضل في مكانة الكاتب ودوره. في إظهار البحث عن الكتابة ووسائلها وشروطها وعملها وقوتها وإرهاقها.

كان الأمرُ أكثر من مجرد لعبة لا نهائية ومتباعدة في أعماق المظاهر، الواقع أن أوستر، جعل هذه الشخصية -التي كانت تشمله إلى حدّ كبير وفي الوقت عينه تشمل جميع الصور الرمزية التي ابتكرها في كتبه- مركزًا لعالم خيالي، أو بالأحرى عالم يحركه الخيال. بقي مهووسًا بالشباب الذي يهرب، بمدينة نيويورك، مسكونًا بأصوله وثقل الأبوة، من هنا أنتج عملًا يركز بالكامل على قوة الخيال، على الطريق الذي يفتحه لمن لديه الشجاعة للكتابة، والعيش من أجل الكتابة. لذا سكنتنا بعض شخصياته، وبعض هذه الاختفاءات التي تفتح في كتبه ممرات رائعة أشبه بالهوة.

هكذا جاءت روايات مرحلته الأولى، تلك التي جمعت ما بين آلية السرد ونوع من البحث اللامتناهي عن الكتابة، والغوص في تعرجات تكوين النص، في روايات ذاتية هي في كثير من الأحيان «ميتا - رواية» لا تتوقف عن التحلل مع بعضها البعض.

ما يجذب أيضًا إلى أوستر، ليست دقة قصصه، التي تكون أحيانًا لطيفة وحزينة، وأحيانًا عنيفة وقاسية، بل طريقته في الجمع بينها. تتداخل القصص في قلب رواياته وتجتمع لتشكل كتابة لا تنتهي، لا يمكن إكمالها عملًا فوق الآخر، وكأنها أوراق شفافة، حاول البحث فيها عن نفسه، كما أسلفنا. وفي بحثه هذا، قادنا إلى متاهته الداخلية التي لا مفر منها: متاهة ميتافيزيقية أكثر مما تبدو عليه، لكن البحث عن الذات في كثير من الأحيان، لا يقود إلى شيء، ولا يلتقط شيئًا.