مائة عام من العزلة الإندونيسية

26 أكتوبر 2021
26 أكتوبر 2021

هل كان ماركيز جريئاً عندما قرر إعادة كتابة رواية "الجميلات النائمات" للروائي الياباني كاواباتا أم أن الحب والإعجاب الذي أبداه تجاه تلك النوفيلا القصيرة التي تستمر بتلات الأشجار فيها بالتساقط كان أكبر من أن يردع واحدا من أهم الكتاب اللاتينيين ومن أفضل كتاب العالم عن محاولة إعادة كتابتها.

إن هذا بحد ذاته يدعو للتفكير في مدى تقارب عوالم الأدبين الياباني واللاتيني، عموما لديّ انطباع فيما يتعلق بالأدب الآسيوي، فهو غالباً ما يحتفي بالطبيعة، فتصبح الجداول وأشجار الكرز وغيرها، شخصية من شخصيات النص، أما الأدب اللاتيني الذي عرف بواقعيته السحرية، فيعكس دوراناً حاداً حول الطبيعة أيضاً، تبدو الروايات اللاتينية أشبه بالأناشيد، إذ إنها ذات إيقاع غني، لا يغفل عن الطبيعة، فأشجار الموز ويراعات الليل تضيء في متنها.

في زاوية أخرى من العالم، وعودة لآسيا قرر روائي أن يكتب نشيداً على لحن مائة عام من العزلة، إنه الكاتب الإندونيسي " إيكا كورنياوان" عبر روايته "الجمال جرح" التي وحتى في نسختها العربية بترجمة المصري أحمد شافعي تنوه لهذا التقاطع المثير بين رواية ماركيز وهذا العمل، فالرواية تدور حول قرية تدعى "هاليموندا" تتعاقب فيها الأجيال، حيث يربض بهدوء تاريخ إندونيسيا هذا الأرخبيل من الجزر في خلفية القصة، وفي المقدمة قصص عائلية متشابكة، وحيوية في صراعها الوجودي من أجل البقاء في هذه القرية والحصول على الحب ولذة العيش في استعادة خلاقة لقرية ماركيز "ماكوندو" على الساحل الكاريبي، والتراجيديا الاجتماعية التي تكثف نغمة ذات طابع ملحمي آخاذ.

لا يجد كورنياوان حرجاً في الاعتراف بتأثره بكتّاب كثر، لطالما أحبهم، قال في أكثر من مناسبة إنه ولشدة حبه لكثير من الروايات التي قرأها في فترة مبكرة من شبابه، عند دخوله للجامعة تحديداً، فإنه أعاد كتابتها بلغته كلمةً كلمة. لقد بلغت دهشته الحد الذي جعله يشعر عند قراءة هذه الأعمال بأنه ثملٌ بها. تحدثت هذه الأعمال معه على حد تعبيره رغم أنه من بلدة صغيرة في إندونيسيا. لا بل إنه يعتبر نفسه جديداً على "الأدب الجاد" بعد فترة قضاها في قراءة أدب الرعب الممزوج بقصص رومانسية عرضية وطفولية وروايات الفنون القتالية، كانت قراءة رواية "شارع السردين المعلب" لجون شتانبيك فتحاً بالنسبة لهذا الشاب الصغير، وهي تحكي قصة مجموعة من العاطلين عن العمل يعيشون في منطقة تعليب السردين في كاليفورنيا، ويحاول تنظيم حفل ما لصديقهم المشترك. نُشرت هذه الرواية عام ١٩٤٥. بعد قراءتها احتفى كورانياوان بالمدينة الصغيرة التي انتقل للدراسة فيها من بلدته، دُهش من توفر المكتبات الكبيرة وأكشاك الكتب الصغيرة، يقول إنه في هذه المرحلة بالذات تعرف على أساتذة الأدب في العالم، بينما يملأه الفضول حول صنعتهم هذه وقدرتهم على كتابة هذه الأعمال الساحرة. ثم وعندما نفد ما يمكن أن يقرأه، بدأ بتأليف "الجمال جرح" التي سينشرها بنفسه لأن دور النشر رأت فيها رواية "أدبية جداً وكثيفة" أو كما اعتاد البعض أن يقول في مشهدنا الثقافي "نخبوية “مما يثير سخريتي – ولتسمحوا لي أصدقائي القراء – إنها ملاحظة نسمعها ليلاً نهاراً، عن كل شيء جاد وبعيد عن الإسفاف وملتزم بشروط الفن أو الجودة العالية.

تحيط الرواية بتاريخ إندونيسيا، منذ الاستعمار الهولندي مروراً بالغزو الياباني، إلا أن ذروة هذا العمل تظهر في عام 1965 العام الذي شهدت فيه إندونيسيا مذبحة كبرى في حق الشيوعيين. الأمر الذي يعد أحد التابوهات حتى يومنا هذا، إذ كثيراً ما ألغت السلطات هناك أحداثا مرتبطة باستعادة تلك الواقعة، لم تكن السلطات الإندونيسية وحدها التي حالت دون هذه الاستعادة بل إن إطلالة في الأخبار المتفرقة على الانترنت سترشدنا إلى تحفظ سلطات دول آسيوية أخرى، حول الحديث عن هذه المذبحة. في "الجمال جرح" يظهر ذلك الشيوعي الشاب الذي ارتدى قميص رجل شيوعي آخر قتل في حمام بيته يدعى "سالم" ينجو من المذبحة بأعجوبة الحب وحدها، لكنه وبالحب أيضاً يشنق نفسه في بيته بعد عودته من نفيه الذي استمر سنوات بعيداً عن هاليموندا المعزولة.

أما عن سر اعتماده على إيقاع سحري في الكتابة عن تاريخ نضال إندونيسيا من أجل استقلالها، فقد قال بأنه لا يريد إظهار من ماتوا في هذا النضال على أنهم مجرد "ضحايا ومضطهدين" وهذا ما يبرر وفقاً لكوندي ناست الأسلوب الساخر المتعطش للدماء، وحس الفكاهة السوداء حتى عند الكتابة عن حملة تطهير مات فيها مئات الآلاف. لقد تذكرتُ عند كتابتي لهذه الفقرة، ذلك المقطع من الرواية عندما ينتظر القائد الشيوعي الذي يباد أفراد حزبه وأصدقاؤه، وصول الجريدة من على شرفة المقر الشيوعي في هاليموندا، وحتى عندما يبحث أفراد الجيش عنه، وبينما يداهمون المقر لا يرونه هناك، إن الأمر أشبه بأن يختبئ لص في مركز الشرطة.

لكن قد لا يكون هذا السحر مجازاً بالضرورة، ففي مقالة نيويوركر عن هذا العمل والتي جاءت بعنوان: "رحلة الكاتب الشاقة عبر أهوال التاريخ الإندونيسي" يشار إلى ثيمة السحر بصفتها مسحة كثيراً ما ظهرت في الخطاب الإندونيسي السياسي الحديث. فعند وفاة سوهارتو ثاني رؤساء إندونيسيا كان بعض الروحانيين قد أشاروا لعلامات على قرب موته، وصاحب الوفاة هزات أرضية تم تأويلها بحس ديني، وفي عام 2009 ادعى أحد المرشحين السياسيين أن منافسيه استخدموا السحر والشعوذة لتقويض فرص فوزه في الانتخابات، في عام 2013 أعاد البرلمانيون صياغة القانون الجنائي المتعلق بممارسة السحر الأسود.

هنالك أمور مثيرة جداً في هذا العمل، فلنتأمل الخلفية التي دخل منها الكاتب حياته الأدبية، إنها وبحسب ما أشرت في بداية هذه المقالة، كانت مع أدب الرعب، وبالرغم من أنه لم يكن قد اختبر قراءة الأدب الذي أسماه بنفسه "أدباً جاداً" إلا أنه اختار كتابة عمل، تتحرك فيه الأشباح، وتنهض فيها سيدة جميلة من قبرها في أول جمل يفتتح بها القصة بعد ٢١ عاماً من وفاتها، إن للقراءات الأولى تأثير مذهل، لا يعني بالضرورة فشلاً في إدراك طرق جديدة للتعبير الفني إذا ما كانت جودة الأعمال الأولى متواضعة، لكنها ببساطة أشبه بأبجدية يمكن أن تدفعنا للغة جديدة في وقت لاحق.

أما الأمر الثاني فهو في علاقتنا بإندونيسيا، التي نعرفها كدولة إسلامية، ونكاد لا نعرف شيئاً آخر عن تاريخها، فهذا العمل مثلاً هو العمل الأدبي الأول المترجم من الأدب الإندونيسي للعربية وقد ترجم عام 2017 ، وتمت الترجمة من خلال لغة وسيطة هي الإنجليزية للمترجمة آني تاكر، أستدعي هنا مقالة كتبتها قبل عام في هذا العمود عن رواية آسيوية أخرى هي "حديقة الضباب" للروائي الماليزي "تان توان إنج". وترجمها العماني أحمد المعيني والتي قربتني هي الأخرى من الثقافات الاثنية والاجتماعية في ماليزيا وتاريخها الطويل مع الاستعمار والاستقلال، مما يعيدني لفكرة لطالما نبهتُ لها وهي مركزية الرواية الغربية حتى في مشاريع الترجمة القومية العربية. لا أستطيع مثلاً أن أتفادى الإشارة لكوني وحتى كتابة هذه المقالة لم أقرأ أدباً هندياً إلا من هنود مهاجرين، مثل جومبا لاهيري الهندية الأمريكية والتي كتبت بعضاً من كتبها بالإيطالية، أكاد لا أصدق أن ثقافة وحضارة مليئة بما نتقاطع معه وتأثرنا به، ليست محل اهتمام بالنسبة للمترجمين ودور النشر والقراء العرب.