ما الذي يعجبنا في ميسي؟

04 أكتوبر 2022
04 أكتوبر 2022

يجسد لنا ميسي شيئا نتوق له باستمرار، وهو التفكير بعدم محدودية هذا العالم الذي نعيش فيه. والسحر المعلق في هذا الهواء الذي نتنشق كل يوم، إنه يقول لنا أن ثمة شيء آخر، هو العبقرية والخيال المطلق، في حياة تريد منا باستمرار التشبث بالواقع، والمادة.

يأتي ميسي مثالاً على المادة/الجسم، متحررا من الطبيعة. خفيفا، سريعا ومناورا، في لعبة يلهو فيها لأنه يحبها أولا، لنتعلم منه بدورنا ما حاول فلاسفة ما بعد الحداثة التنظير له دوما وهو اللعب، باعتبار الحياة لحظات صغيرة لامعة في خط الزمن الذي نعيش. أو كما يقول فالتر بينامين في تنظيره عن المدينة، باعتبار أنها مسرح حياتنا، قائلا، أنها بلا إلهاء تخسر طبيعتها، وأنها بلا طرق فرعية، أماكن سرية صغيرة، لا توفر لنا المدينية التي يتخيل أنها قادرة على شحذ المخيلة، والدفع نحو التفاعل الخلاق فيما بيننا.

قضيتُ الأيام الأخيرة وأنا أقرأ كتاب "ميسي: تمارين على الأسلوب" لـلكاتلوني جوردي بونتي متوسلة تفكيرنا في حدود اللغة التي نصف بها الأشياء، والحدود التي تضعها لنا باستمرار، حتى هذا ما أصر عليه الكاتب نفسه، إن أول ما يفعله السحر، هو الانفكاك عن اللغة التي تؤطره، لذلك فأي صفة تليق بميسي؟ هنالك من حاول أن يدخل للقاموس كلمات جديدة من قبيل "المسّية".

مرة أخرى تعيدنا عبقرية الأسلوب للتفكير باللغة باعتبارها وسيطا ناجحا للتواصل، ولذلك الجدال المستعر حول ما إذا كانت اللغة هي أس التفكير، أم أن التفكير واحد مهما اختلفت اللغة وتباينت، وهذا ما يدعى بالنسبية اللغوية، التي رأى جون ماكوورتر في كتابه "خدعة اللغة – لم يبدو العالم متماثلا في كل لغة" أنها وسيلة للسيطرة على "الآخر" وتعزيز مركزية الأوربيين وتفوقهم الحضاري، وهو ما ذهب ضده بالمناسبة شوبي وهو أحد علماء النفس الاجتماعي والاكلنيكي من أصول لبنانية في مقاله الشهير: أثر اللغة العربية على نفسية العرب. ملقيا نظرة دقيقة على العلاقة بين اللغة والنفسية والتلازم بينهما، وغموض العربية واحتوائها على صيغ مبالغة كثيرة، وارتباطها بالقرآن مما يجعلها مقدسة وغير قادرة على التفاعل مع الحياة اليومية.

لكن هنالك جانبا مخيفا أيضا يجسده ميسي، وهو أيضا ما جسدته الليبرالية الكلاسيكية في بدايات التنظير لها، وهو أننا لسنا جميعا متكافئين، وهنالك من هو أكثر استعداداً ليحظى بالتعليم أو أي فرصة كانت، فميسي الموهوب، يقابله كريستيانو رونالدو المجتهد، العصبي، المهووس الذي يقضي وقتا طويلا ليقال في نهاية الأمر أن ميسي يحفزه، لكن في المقابل ميسي هو ميسي حضر أم غاب رونالدو. سؤال آخر إذن، الموهبة أم التمرين والعمل والجهد؟ إنها الحدود مرة أخرى، إنها العودة لأرض الواقع القاسية، وشروطه، وانعدام الاحتمالات حتى بالنسبة لي أنا أمل، الكاتبة التي تحب الأدب وتريد أن تصبح كاتبة أدب جديرة، لكن ترا هل السر في الموهبة أم العمل الدؤوب؟

ما دفعني لقراءة هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته حديثا عن دار نشر "أطلس" وهي دار نشر سورية جديدة، ما كنت قد قرأته للكاتب السعودي أحمد الحقيل في تدوينة له بعنوان "إنه يحدث" عن اللحظات الفارقة التي يتحقق فيها شيء من الكمال إن لم يكن الكمال كله، ساردا أمثلة كثيرة، منها ما يفعله ميسي باللعبة وبنا طوال الوقت، يكتب الحقيل: "حينما يعتزل ليو، ستجيء أجيال تقف في مخلفات الـ “إنه” التي تركها مثل غيره، مقاطع الفيديو والحكايات والشواهد التي يرويها أشخاص عاشوها بكل قوتها وعنفوانها ويوميتها وتكرارها، وسيتضح لهم ذلك الندم بشكل أكبر لأنهم فوتوا شيئا عظيما كان سيلوّن ذكرياتهم وحياتهم بمتعته ولذته ونشوته. وسيكون أكثر ندما منهم من لحق على ذلك الـ “إنه” ولكنه لم يختبره بكل طاقته، لم يُلقِ له بالا كما يجب، لم يهتم به كما يليق به. وسيكون مثل شخص أمضى أيامه يلعب النرد وشيشرون يخطب في منصات روما، أو انضم إلى حلق الحديث بينما كان إبراهيم الموصلي يغني في مكان ما في بغداد، أو اكتفى بدراسة الخيمياء بينما كانت روايات مارك توين تباع على الأرصفة، أو شجع الهلال في وقت كان يلعب فيه ماجد عبدالله في النصر. ذلك الـ “إنه” في صرخة الممسك برأسه في مباراة خيتافي كانت حينها أيضا شيئا أعظم من أن يعرّف. ولكن الآن، حينما اكتمل، صار ذلك الـ “إنه” هو “ميسي”، فما إن تقول “ميسي” حتى يُفهم أن المعنيّ هو أقصى مراحل الكمال والجمال الكروي الذي لم تشهد اللعبة العريقة التي تتحكم بعقول وأفئدة الكثيرين حول العالم شيئا مشابها له."

تدخل كرة القدم حقل الأدب، لكن هذه المرة لا بصفتها موضوعا دفع بأحداث تاريخية، أو قدم لحظات من الانفعال العاطفي الذي أثر على كثيرين، بل بصفتها محفزا نحو فهم الأسلوب، وتعريفه، واكتشاف الدغمة التي تطبع نفسها على العمل الإبداعي، أو ما الذي يجعل بروست هو بروست فقط؟ وكافكا هنالك وحده في زاوية من التعبير عن الذات والحياة؟ ما هو الأسلوب وكيف نتلمسه في أثناء اللعب. إن ميسي ببساطة وبما يفعله في أكثر لعبة شعبية في العالم، شبيه بالشعر فحسب، مما يجعل "الأقلية الهائلة" على حد تعبير الشاعر رامون خيمينيز في رده على سؤال من يقرأ الشعر الآن؟ نحن جميعا بلا استثناء.