"ما أصعب انطفاء النجوم!"

28 مايو 2022
28 مايو 2022

في زمن الكاسيتات أو الأشرطة السمعية، وقبل انتشار الأقراص المرنة تعرّفت على صوت شاعر الحداثة العراقي الكبير الراحل (مظفر النواب ١ يناير ١٩٣٤م العراق - ٢٠ مايو ٢٢٠٢م الشارقة). كنت أدرس أيامها مرحلة البكالوريوس في الجامعة الأردنية. وكانت تُباع الأشرطة في محلات لبيع التسجيلات المنتشرة مع الباعة الثابتين في محلات مستقرة، أو الذين كانوا يفترشون أرصفة الطريق لبيعها. لم يكن شعر مظفر النواب باللغة العامية ما أبحث عنه، بل كان شعره الفصيح، والسياسي منه على وجه الخصوص.

عندما دخلت إلى أحد محلات بيع الأشرطة، تجاذبت أطراف الحديث مع البائع المثقف، وهذه الصفة أطلقها عليه دون أي حمولة مبتذلة! فقد كان البائع قارئا في السياسة وفي الأدب، أنهى مرحلة الثانوية العامة وضاق معه الحال كما يضيق مع أمثاله فلم يواصل تحصيله الجامعي، لكنه أحب القراءة وصاغ وجوده بناء على ذلك الأمر، وكما يقول الدوس هكسلي: "كل من يعرف كيف يقرأ يستطيع توسيع قدراته، وتنويع وجوه وجوده، ليجعل حياته مليئة وملهمة ومثيرة". وقد كانت بالفعل، حياة مثيرة أولها حرب 1948م، وليس آخرها الاغتيالات السياسية والبشرية للفلسطينيين، والاعتداءات اليومية الغاشمة على الأقصى الشريف. وبعد حديث عام حول السياسة سألته إذا كانت لديه أشرطة شعرية حول السياسة، فذكر لي اسم مظفر النواب! استعجبتُ منه لأنني كنت أعرف أن أشعار مظفر النواب السياسية كما سمعتُ من بعض الأصدقاء العمانيين ممنوعة من النشر والتداول بلغة سوق الأوراق المالية، لكنه أكد لي بأنه يبيعها، مشيرا بين التفاتة احترازية من رأسه وغمزة أنه مختص في بيع كل ما هو ممنوع من أشرطة! وعلى الفور طلبتها منه، وبفرح غامر أخذتها وغادرته وفي داخلي شعور من كأنها حصلت على أحد كنوز مغارة علي بابا، لكن ما أقلقني بعد عودتي إلى مقر سكن الطالبات العمانيات في ذلك الزمن، انصب حول تفكيري في الكيفية التي كنت سأدخِل بها هذه الأشرطة في أثناء عودتي إلى عُمان لكي أقدمها كهدايا للأصدقاء! واليوم وبفضل التقدم العلمي والتطور في أساليب الاتصالات، يستطيع المرء الحصول على كل شيء كان ممنوعا، بالضغط على زرّ على الجهاز اللوحي، فيتنزّل العالم كله أمام عينيك، حتى أن الرقابة لم تعد تملك تلك السلطة التاريخية التي تمتعت بها عبر قرون.

إن رحيل شاعر كبير في المنفى بحجم مظفر النواب رحيل مؤلم وحادّ جدًا. والذي شاهد مراسم استقبال جنازته -كما وصفها بعض الرومانسيين بالمهيبة والمستحق لها- اللافت فيها ليس مهابة التشييع الذي لا يمكن أن يساوي نقطة في بحر الوجع الذي عاشه الشاعر المنفي متنقلا بين مدن عربية وأوروبية مختلفة، وإنما اللافت هو ملخص ما جاء في تغريدة الكاتب والإعلامي محمّد اليحيائي التالية: "الرئيس يُكرم نفسه وطائرته بجثمان الشاعر. الشاعر الذي لم يحظ بالتكريم والاهتمام في حياته، لا حاجة له به في مماته. العرب يُكرمون الموتى لا الأحياء"، لتعيدنا هذه التغريدة لتذكرّنا بالجدّل المستمر الحاصل بين علاقة جميع أشكال السلطات المتعينة والخفية، المعلنة والباطنية مع المثقفين والتنوير والإبداع، ومدى تغلغل فكرة الممنوع المرغوب عند تسويق الأدب شعرًا ونثرًا، إلى غير ذلك من الإشكاليات الثقافية والمعرفية التي تخصّ كتابة المنفى، شعريًّا وسرّديًّا.

الناظر إلى حياة مظفر النواب الشعرية في بعدها الهجائي السياسي، سيجدها تجربة تمتاز بالحيوية، مستمرة خالدة بكل مرارة ووجع واعتراض ورفض، إذّ لم تتحقق للشاعر العودة محمولا على أيادي الفرحين بعودته إلى وطنه الذي غاب عنه ليموت خارجه بعد صراع طويل مع المرض في المنفى، ولا الانقسامات السياسية قلّ تمددها، ولا رقعة الفرح اتسعت في بلاد الرافدين، ولا عروس العروبة غادرها القتلة.

بالعودة بالزمن إلى تذكر ذلك الكاسيت، كانت قصائده "وتريات ليلية، قتلتنا الردة، والقدس عروس عروبتكم... إلخ" تفتح جراح القلب على جميع احتلالات الوطن العربي، حيث أصرّت قصائده على تعرية كلّ شيء بلا خجل أو نفاق أو زيف أو مواربة، فكان أن صارت ألفاظه الساخنة والبذيئة تجري على لسان العوام والخواص بلا استثناء. لم يكن الشاعر معنيّا بجعل ذاته فوقية من خلال شعره، وهو الذي كان ينتمي لعائلة ثرية خسرت ثراءها في ظروف تبدّل مقادير الزَّمان، إنّما ظل يحرص على أن تكون القصيدة وجها صادقا لقناعاته، وما يؤمن به في حياته المشرّدة بالمنفى، وأن تظل القصيدة السياسية النوابية هي صورته الفعليّة، وبطاقته الشخصية التي يُعرف بها دون ادعاء أو تزلف أو تخاذل، فكان مظفر المختبر وأدواته والمادة الخام معًا. لقد انعكس ذلك في أغلب قصائده، التي حضر فيها العراق؛ الوطن والطفولة والشباب والوعي والتجربة الحزبية، وناس العراق وحكايتهم وأمثولاتهم، وقصصهم، كما حضر التاريخ العربي والقومي، وفلسطين والقدس؛ الأرض والعِرض والشرَف، ونضال الحياة السياسية وحمولة كلّ التاريخ والجغرافيا وانقطاعات النفي السياسي بشتى ضروبه.

هناك من يشبه حياة مظفر في انتقالاته من منفى لآخر بحياة الصعاليك مع فارق في التشبيه والتجربة والزمن والجغرافيا والنتيجة، إذ تضاف إلى حياة شاعرنا تجربة الوظيفة الرسمية، والهروب إلى إيران، والحكم العسكري بالإعدام، بالإضافة إلى ذلك، خوض تجربة السجن المؤبد ثم الهروب من السجن والانضمام بعدها إلى الكفاح المسلّح. ويظل لهذا الرأي نصيبه من القبول والرضا أو الاختلاف والاعتراض.

يقول:

سبحانك كلّ الأشياء رضيت سوى الذّل

وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان

وقنعتُ بكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير

ولكن سبحانك... حتى الطير لها أوطان

في تذكر تلك اللحظة الزمنية القديمة التي جلسنا فيها مع صوت مظفر النواب عبر الكاسيت الذي ضعفت بكراته، كان لنبرات إنشاده العذب مذاقا يخطف شغاف القلب إلى أنغام حروف لغة حزينة. فيسأل أحد الجالسين بيننا: هل يهذي؟ أم أنه يتجلى؟

لم يكن الجواب خافيا على أحدنا؛ لأن شعلة انفعالية من الدموع والحسرة وجدت طريقها إلى مآقينا. رحم الله الشاعر مظفر النواب، صاحب قصيدة "الريل وحمد"، نجم انطفأ في المنفى، وكم من نجوم عراقية قد انطفأت في منافيها ودُفنت بعيدة عن الأرض الأم وعن الأهل والأصحاب إلّا من الذكريات!